الاثنين، 27 أغسطس 2012

صلاح الدين الأيوبي رحمه الله


سلاماً صلاح الدين يا خير قائد *** بأمجاده تاج الفتوح تزينا
سلاماً صلاح الدين إنا بحاجة لمثلك *** من يعلى على الحق صرحنا
به نُدرك الغايات طراً وإننا على ***  موعد الفجر الذي قد قادنا

المجاهد الرباني، صاحب معركة حطين التي سُميت (مجزرة الصلبيين) في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان عدد الأسرى ثلاثين ألفا من شجعانهم، وقتل منهم ثلاثون ألفا.
بلغ ثمن الأسير في دمشق ثلاثة دنانير، ويباع الرجل وزوجته وأولاده في النداء بيعة واحدة، ولقد بيع رجل وامرأته وخمسة أولاد لهما بثمانين ديناراً، وأخذ صليب الصلبوت، وعلق على قنطارته منكساً، ودُخل به إلى دمشق وكان رؤوس الفرنج مثل البطيخ، وقيل إن بعض فقراء العسكر من المسلمين باع أسيراً بزربول (حذاء)[1] فقيل له في ذلك، فقال: "أردت أن يقال بلغ من كثرتهم وهوانهم أن بيع واحد منهم بزربول".
وقال الحافظ ابن كثير: "ذُكر أن بعض الفلاحين رآهُ بعضهم يقود ألفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطُنُب خيمٍة، وباع بعضهم أسيراً بنعلٍ ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً" [2]. هكذا تكون الهمم يُباع الرجل من الفرنج بحذاء فليشهد على ذلك التاريخ ولكن هل سيتكرر ذلك؟ ومتى؟!
يقول القاضي ابن شداد: "لقد رأيته - رحمه الله - مرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة الدمامل التي كانت قد ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس وإنما يكون مُتكئاً على جنبه إن كان بالخيمة، وامتنع من مدّ الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكأن يأمر أن يُفرق على الناس وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية للقتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة الضربان الدمامل وأنا أتعجب من ذلك. فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل، وهذه عناية ربانية.
ولقد مرض - رحمه الله - ونحت على الخروبة، وكان قد تأخر عن (تل الحجل) بسبب مرضه فبلغ الإفرنج ذلك فخرجوا طمعاً في أن ينالوا شيئاً من المسلمين بسبب مرضه وهي نوبة النهر، فخرجوا في رحلة إلى الآبار التي تحت التل ثم رحل العدو في اليوم الثاني يطلبنا، فركب - رحمه الله - على مضض ورتب العسكر وجعل أولاده في القلب ونزل هو وراء القوم بطلبه وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار وهو يستدير إلى ورائهم حتى يقطع بينهم وبين خيامهم، وهو - رحمه الله - يسير ساعة ثم ينزل يستريح ويُظَلَّل على رأسه بمنديل من شدّة الشمس ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر ونزل هو قُبالتهم على تل مُطلّ عليهم إلى أن دخل الليل ثم أمر العسكر أن تعود إلى محل المصابرة وأن يبيتوا تحت السلاح وتأخر هو إلى قمة الجبل وضُربت له خيمة لطيفة، وبت تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونُشاغله وهو ينام تارةً ويستيقظ أخرى حتى لاح الصباح ثم ضرب البوق وركب - رحمه الله - وركب العسكر.
وفي ذلك اليوم قدّم أولاده بين يديه احتساباً، الملك الظاهر والملك الظافر وجميع من حضر منهم ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير، فيظن الرائي لها عن بُعد أن تحتها خلقاً كثيراً وليس تحتها إلا واحد بخلق عظيم - رحمه الله -."
ولم يخلف الذهب ولا الفضة وترك لأولاده سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً.
قال القاضى ابن شداد عن يوم موت صلاح الدين: "كان يوماً لم يصب المسلمون والإسلام بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين، وغشى القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمها إلا الله" [3].
قال ابن شداد: "وذُكر أنه دفن معه سيفه الذي كان معه في الجهاد، وكان ذلك برأي القاضي الفاضل حيث قال: هذت يتوكأ عليه في الجنة".
وكان - رحمه الله - يصلح في سور القدس، وكان يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأماكن البعيدة فيقتدي به العسكر.

قُم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ***  ثأرٌ طويل ولهيب العار يكوينا
قم يا بلال وأذن صمتنا عدم *** كل الذي كان طُهراً لم يعد فينا
هل من صلاح يعيد الصيف في *** يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا
هل من صلاح يداوي جرح أمته ***  ويطلع الصبح ناراً من ليالينا
هل من صلاح لشعب هَدَّهُ أملٌ *** مازال رغم عناد الجرح يشفينا
جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني *** جئنا نداويك وتأبى أن تداوينا
إني أرى القدس في عينيك ساجدة ***  تبكي عليك وأنت الآن تبكينا
مازال في العين طيف القدس يجمعنا ***  لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا

وقف (غورو) أمام قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: "ها قد عُدنا يا صلاح الدين".
تكلم كأن الغدر يهدر من فم *** وتنطلق الأحقاد من كلمات
فدوى هنا ينهي الصليب حروبه *** ويمضي فنون الموت والفتكات
ويمضى مع الأيام نهج إبادة وخطة تمزيق ووأد حياة..
أرسل شاب من أهل دمشق كان مأسوراً في بيت المقدس رقعة إلى صلاح الدين فيها هذه الأبيات:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس
جاءت إليك ظلامةٌ تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي مُنجَّس

بقلم الشيخ :-
محمد بن عبد الملك الزغبي

----------------------------------------
[1] انظر عيون الروضتين (2/135-137) ط. الفكر.
[2] أنظر البداية والنهاية (12/342) ط. دار الغد العربي
[3] انظر عيون الروضتين (2/289-290)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق