الخميس، 30 أغسطس 2012

تأملات حول العيد


أ. فتح الله كولن


الأشهر المباركة التي تتقدم على رمضان وتبشرنا بإشراقه هي بمثابة مؤشرات وعلامات صامتة وهادئة على قدوم أيام مباركة وظهور بشائرها في الأفق... أيام مليئة بفيوضات تقبل كالسيل الهادر وتحتضن القلوب. ومع اليوم الأول من هذه الأشهر المباركة يحس صاحب كل قلب مؤمن أنه مغمور في جو رمضان. فتجده من اليوم الأول مستعرضا جميع مشاعره المتعلقة بعبوديته مدققا لها لكي يستفيد من بركة الشهر الكريم الذي أصبح منه قاب قوسين أو أدنى حق الاستفادة ويستثمره حق الاستثمار. فكأنه نهض من غفوة فأثَر النعاس لا يزال في عينيه، وكلمات من بقايا حلم على لسانه، فيستجمع جهده لتركيز انتباهه وتجميعه حول هذا الموضوع، وتصيّد النغمة القدسية المتآلفة مع هذا التوجه ومع هذا القصد.

عندما تمتلئ القلوب بالمشاعر، وتبلغ الأرواح قوامها، يولد شهر رمضان من رحم الهلال، ولكن بقوة ضياء البدر من خلف البشائر المتعاقبة لهذه الأيام. ويهبّ كألطف نسيم، ويحيط بقلوبنا ويلاطف أرواحنا وأجسادنا برقّة الحرير، ويملأ أعيننا بصور الجمال الشبيهة بجمال سفوح الربيع، ويثير في أفئدتنا رغبة التسامي، ويدع في صدورنا انتفاضة حلوة كانتفاضة عصفور بلّله القطر.

وأخيرا تنتهي هذه الضيافة التي تدوم شهرا، ويودعنا شهر رمضان الذي قدم بعطاياه الكثيرة... يودعنا ولكن الأرواح التي وصلت إلى حياة جديدة والتي اقتبست من نوره، والقلوب التي استغرقت خلاله في التأمل والتفكر، والتي ارتجفت من خشية الله، والقلوب الهائمة التي خرجت تبحث عن مسالك وطرق الوصال؛ تحتضن بدفء أيام العيد هذه المرة. وكما يرى الإنسان المبحر بعد قليل أن المياه تحيط به من كل الجوانب، نجد أنفسنا في العيد بعد انقضاء الأشهر الحرم الثلاثة في جو من الاطمئنان والسكينة... نحس هذا في أعماقنا، وبكل كياننا، وبكل ماهيتنا الإنسانية.

تبدو صلوات العيد وأصوات التهليل والتكبير وصدقات الفطر لأصحاب القلوب المؤمنة كمنافذ إلى عالم خيالي رائع، فينطلقون كقوارب أطلقت أشرعتها للرياح. أجل، إن الجو العام في العيد، والسحر الذي يحيط به وبكل التصرفات والأصوات والحديث يجعل الإنسان يشعر وكأنه يرتفع نحو السماء ببطء ويبتعد عن محله ومكانه الذي انطلق منه، ويعيش في مثل هذا الجو الساحر الذي تنهمر فيه الأضواء والأنوار.

في العيد نعيش الماضي والحاضر والمستقبل معا. يهيأ إلينا وكأن هناك سحرا غريبا في الأصوات المرتفعة من المعابد وفي المنازل التي نزورها وفي الأيدي المباركة التي نقبلها... سحرا ما أن نلمسها حتى تتفتح أمامنا منافذ عديدة للماضي. فنجد أنفسنا داخل مسجد قديم نجلس في صف واحد مع أجدادنا وأجداد أجدادنا. وحينما تلتقي شفاهنا بالأيدي الطاهرة نشعر وكأننا قد قبّلنا مئات الأيادي المباركة فننتشي بفرحة غامرة. وعندما نهنّئ أصدقاءنا وأحبابنا ونضمهم إلى صدورنا نحس وكأننا نضم أحبابنا الذين عاشوا قبلنا وقبل هؤلاء في عهود سابقة. كل حركة في العيد وكل فكر وكل تصور وكل كلمة أو حديث وكل تصرف يبعث شريطا زمنيا من أشرطة الماضي، ويحيا ويحيط بكياننا، ويملأ أفقنا، ويصبح ملْكنا، ويهب -حسب درجة ووسعة خيال كل منا- أنموذجا للبعث بعد الموت.

الأعياد في الحقيقة ترانيم قادمة إلينا من أمجاد أجدادنا ومن جذورنا المباركة. بسحر هذه الترانيم نصل في كثير من الأحيان إلى عوالم ما كنا لنصل إليها من قبل، إذ ندخل إلى كل مكان بسهولة الأحلام، ونتجول في كل الأماكن بسرعة الخيال طاوين الزمان الذي نعيشه بأزمنة متداخلة بعضها في بعض. أجل، إن الماضي يعود إلينا بكل مجده السابق بدرجة تعايشنا مع سحر شهر رمضان، ويعود كل ما فقدناه من قبل، ونتنفس من جديد رائحة تلك الأيام النقية ونستنشقها بعشق لتمتلئ بها صدورنا، ونرتشف من الينابيع الفياضة الماضية، فنحسب أنفسنا في عالم آخر. وقد يبلغ بنا الاستغراق مبلغا نخال وكأن جميع من في القبور قد بُعثوا، وكل شيء ممزق ومبعثر هنا وهناك أشلاء قد تجمع وتوحد من جديد، ويرجع شتات الزمن الذي انقضى من أعمارنا ليحتضن أرواحنا، ونعيش -بجانب ما نعيشه اليوم وما عشناه بالأمس في أعمق الأذواق وأوسعها- في ذكريات لذائذ روحية ساحرة، حتى إن عناصر اللذة والأذواق في هذه النقطة -كما هي في الأحلام- تكون متغيرة على الدوام حسب نياتنا وأفكارنا وميولنا، وتتجدد على الدوام حسب رغباتنا، وتلبس الحال التي نريدها، وبينما كانت هناك رغبة واحدة إذا بها تنقلب إلى ألف. فكل ما شاهدناه وكل ما سمعناه وكل ما أحسسنا به نراه يتغير -بفضل سحر خارق- من شكل إلى شكل. وبذلك نديم حياتنا بتلونات عديدة من حس لحس، ومن فكر لفكر ومن لذة للذة أخرى.

عندما ينشق فجر يوم العيد تنطلق أصوات التسبيح والتمجيد من المآذن، وفي الدقائق التي يبلغ الجو الروحاني الذروة في كل مكان نشعر بأحاسيس غامضة وسرية تثير خيالنا وتأخذنا إلى الأعماق، بل إلى أعماق الأعماق، وتهمس لقلوبنا بمشاعر لم يفصح عنها من قبل، ولا يمكن بحال من الأحوال التعبير عنها بأي كلمات ولا بأي لغة.

أجل!.. إن نغمة وصوت الأذان عندنا، النابع من عواطف وأفكار الموسيقيين السابقين الكبار أمثال "العِطْري" و"دَدَه أفنْدي"، وأصوات التكبير والتمجيد والتهليل وأسلوبها وطعمها وجمالها، هو اللسان الخاص لهذه الأمة، ولغتها ذات الأبعاد المتنوعة الكثيرة السارية في عروقها. هذه الموسيقى التي تهز عواطفنا وتعبر عن مشاعرنا كأنها نغمات تهبّ على أرواحنا من آفاق ما وراء الزمن.

المؤذن بهتافه المتلاحق وكأنه يصدر أوامر، والإمام الذي يرتجف صوته ويئن بكلمات سماوية، وجماعة المصلين الذين يهدرون معا مثل أوركسترا... كل هذا يجري بدرجة من الأصالة والمهابة ويبعث القشعريرة في الأجساد. وعندما نتمتم بهذه الأصوات المرتفعة من المعابد ونهمس بها نحس من جديد بماض طويل مجيد، بل أكثر من هذا بحقيقة عالمية شاملة، ونظرة تمتد من الأزل إلى الأبد، فنغرق في جو من السعادة.

إن المعبد -ولا سيما في أيام العيد- يمثل بجوّه الرقيق الناعم كالحرير، والدافئ دفء عش الطير، والمملوء حيوية... يمثل صفاء المشاعر، وراحة الوجود والاطمئنان، وغاية العيش، ومغامرة الحياة، وجذور المعاني لأمّتنا، وأسس ثقافتنا وخلود ديننا، وموسيقى لغتنا، ونظرتنا للحياة، ورأينا في الدنيا وأسلوبنا ولهجتنا، ويهمس لنا ليرينا الطرق المؤدية إلى الإنسان الحقيقي.

إننا نشعر على الدوام بهذه الأصوات التي تتردد في جوانب المعبد، ونجد في هذه الأصوات الدافئة انحناء السماء نحو الأرض، وتكامل الأرض مع السماء، وغمز النجوم لزهور الأرض وورودها، وبسمة الورود لأهل السماء، ونحس بالتواصل السري والسحري الدائم بين السماء والأرض ونكاد نراه رأي العين.

هذا الصوت وهذا المنظر وهذا الهمس الذي ينقل كل شخص -حسب قابلية روحه وعمق خياله- إلى عالم آخر يبعث في القلوب المؤمنة صورا رائعة من الجمال ترتعش لها الأفئدة وترق لها العواطف. وعندما تنتهي الصلاة وتختتم السياحة السماوية، ويودع المسجد مؤقتا، يعود الإنسان إلى الناس من جديد كأنه آتٍ من ضيافة الرحمن بعد أن اكتسب بُعدا وعمقا جديدين، ويحتضنهم ويبادلهم التهاني، ويتقاسم مع كل من يصادفه في السوق والشارع، وفي البيت ومكان العمل، وفي المدرسة والمعسكر هذه الهبات والأعطيات التي أخذها واستلمها وامتلأ بها. وهكذا تكتسب أجزاء الزمان المحدودة ضمن بضع ساعات، بدرجة سعة القلب وعلو الروح، صفة فوق الزمان، فكأنه اكتسب خلودا. ويتوضح لدى الإنسان كيف أنه وهو في الدنيا قد أسس علاقات عميقة مع الأبدية وما وراء هذا العالم.

ولا أدري كيف كان من الممكن وما الزمان المطلوب أو النظام الذي يمكن الاستعانة به لكي يحس المسلمون صغيرهم وكبيرهم بكل هذه المشاعر وهذه الأحاسيس والخيالات، وبكل هذه العواطف المتأججة، وتنعكس كل هذه الأصداء في أرواحهم، لو استعانوا بطرق أخرى أو سبل غير هذه السبيل. وأنا لا أعتقد إمكانية هذا الأمر ولا نجاحه في الوصول إلى كل هذه الروحانية الشفافة. لأن بهجة الأعياد وفرحتها وسعادتها ولذّتها لا تنبع فقط من هذه الحياة المعاشة، بل من أبعاد الحياة التي سوف نحياها في دار العقبى. فكل من يعش في خيال البرج العاجي لقلبه، يلقه هناك سحر سيحسّه وسيذوقه في المستقبل إلى جانب ما ذاقه اليوم. ويتجول في عالم رؤى المستقبل الأكيدة التي تبدو لعالمه الداخلي أكثر ملاءمة ودفئا ونعومة. والإنسان في الحقيقة مجبول على التطلع والانتظار، يقضي معظم عمره في انتظار عوالم الأمل وأخيلته. ومعظمنا في انتظار جنة مرتبطة بمعنى لصيق بماهيتنا وذاتنا. وليس هذا الانتظار نابعاً عن عدم استحساننا أو عدم قبولنا ورضانا عن الحياة التي نعيشها، بل انتظار لمفاجآت إلهية لا تستوعبها خيالاتنا كبَشَر، ولا خطرت ببالنا، ولا على أسماعنا، ولم نذقها. والأعياد ألسنةٌ بليغة تهمس بصواب هذا الأمر من منافذ قلوبنا إلى أعماق أرواحنا.

الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

المشروع الإسلامي وحفظ دماء وحرمات الناس


الإنسان وكرامته وحرمته وحريته والحفاظ على حقوقه وتحقيق أسباب العيش السعيد له أهم ما يدور حوله المشروع الإسلامي، ولذلك فهو يهتم أساسا بالحفاظ على ما يسمى بالكليات الخمس وهي: النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال، ويجعل الحفاظ على النفس أول الأغراض التشريعية لكثير من أحكامه، ويحرم الاعتداء على هذه النفس بالقتل أو الإصابة، سواء كان المعتدي شخصاً آخر أو كان هو الشخصَ نفسه، حتى إنه حرم الانتحار والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، قال تعالى ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ وقال تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؛ ويجعل القصاص مرصادا لمن يعتدي على الآخرين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ويعد ذلك كله عرفاناً بقيمة الإنسان واحتراماً لحقه في الحياة.
وقد تجاوز الإسلام كافة التشريعات البشرية حين لم يقف عند حد وضع العقوبات المادية الدنيوية للاعتداء على النفس الإنسانية بغير حق، بل توعد المعتدين على النفوس، وفي المقدمة من ذلك النفوس المؤمنة بعذاب عظيم في الآخرة، فإن أفلت من عقاب الدنيا لأي سبب فلن يفلت من عقاب الله ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ وتتابعت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في النهي عن الاعتداء على النفس المؤمنة، بأساليب مختلفة تملأ النفس رهبةً من الإقدام على مثل هذا الجرم العظيم، حتى ليعتبر أن زوال الدنيا وفناءَها وخراب هذا الكون بما فيه أهونَ عند الله من قتل نفسٍ مؤمنةٍ بغير حق؛ لأن الكون كله خُلق لأجل الإنسان وسُخِّر له، وفي هذا غاية التكريم للإنسان وقمة الاحترام للنفس البشرية وخصوصا النفس المؤمنة.
وفضلا عن ذلك فإن المشروع الإسلامي أحرص شيء على كرامة الإنسان، حتى إنه يرفض أن تتنصت الدولة على مواطنيها، أو أن تسعى للتعرف إلى أسرارهم، ويرى المشروع الإسلامي أن هذا من الخصوصيات التي يجب حمايتها، ويرفض تماما أن تُنصَب لهم آلاتُ التصوير الخفية لتصورهم وهم يمارسون حياتهم، ولا يسلط الشُّرَطةَ أو غيرها لتتجسس على الناس المخالفين للنظام حتى تقبض عليهم متلبسين!
بل إن توجيهاتِ النبي صلى الله عليه وسلم هنا حاسمةٌ كلَّ الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم أوتتبع عوراتهم، سواء من قِبَل الأفراد، أومن قِبَل السلطات الحاكمة، فيقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: «مَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أي الرصاص المغلي المُذاب من شدة الحرارة، ويرفض صلى الله عليه وسلم أن يبعث الحاكم عيونه بين رعيته، فيقول فيما أخرجه أحمد وأبو داود: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».
العيون إنما يبعثها القائد لتتجسس على عدوه، وتنقل له أخبار خصومه الذين يتربصون بالأمة، أما مواطنوه ورعيته الذين وُكِلَ إليه أمرُهُم، وأُمر أن يجتهد في الخير لهم، فلا يمكن أن يتنصت عليهم، ولا أن يتتبع مجالسهم، بل ولا أن يدخل عليهم بغير استئذان.
حتى من بلغه أنه ينافق وأنه يجتمع مع مجلس نفاق أو يجتمع لفعل شيء محرم، كان صلى الله عليه وسلم يرفض أن يبعث إليه ليتجسس عليه، فعند الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ حَرْمَلَةُ بن زَيْدٍ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، الإِيمَانُ هَهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، وَالنِّفَاقُ هَهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَلا يَذْكُرُ الله إِلا قَلِيلا، فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَسَكَتَ حَرْمَلَةُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَرَفِ لِسَانِ حَرْمَلَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى الْخَيْرِ»، فَقَالَ حَرْمَلَةُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي إِخْوَانًا مُنَافِقِينَ كُنْتُ فِيهِمْ رَأْسًا أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا، مَنْ جَاءَنَا كَمَا جِئْتَنَا اسْتَغْفَرْنَا لَهُ كَمَا اسْتَغْفَرْنَا لَكَ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَنْبِهِ فَالله أَوْلَى بِهِ، وَلا تَخْرِقْ عَلَى أَحَدٍ سَتْرًا».
وهكذا فعل خلفاؤه رضي الله عنهم، فقد صحح الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنه حرس ليلة مع عمر رضي الله عنه بالمدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراجٌ في بيتٍ، فانطلقوا يؤمُّونه (أي يقصدونه) حتى إذا دنَوْا منه، إذا باب مُجَافٌ (أي مغلق) على قومٍ، لهم فيه أصواتٌ مرتفعةٌ ولَغَطٌ، فقال عمر رضي الله عنه -وأخذ بيد عبد الرحمن-: أتدري بيتُ مَنْ هذا؟ قال: لا، قال: هو ربيعةُ بنُ أميةَ بنِ خَلَف، وهم الآن شُرْبٌ (أي يشربون الخمر) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتيْنا ما نَهى اللهُ عنه، نهانا الله فقال:﴿ ولا تجسسوا﴾ فقد تجسسنا! فانصرف عمر عنهم وتركهم.
ويرفض المشروع الإسلامي محاسبة الناس على النوايا أو مؤاخذتهم بالظن لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله، فقد أخرج البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، الله يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ».
وأخرج ابو داود بسند صحيح عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (وهو قاض) فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا. فَقَالَ عَبْدُ الله رضي الله عنه: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ».
ولا يقبل المشروع الإسلامي تلك الصورة القبيحة القميئة التي لا يكون همُّ الحاكم فيها إلاأن يتعرف إلى خصوصيات رعيته، ليُخوِّفهم ويُرهبهم، ليسمعوا ويطيعوا بلا وعي، فهذا خلاف الولاية الصحيحة التي أرادها الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فهل يعي المسؤولون عن أمر أمتنا والمقبلون على تولي المسؤولية فيها هذه القيم الرائعة التي يحملها المشروع الإسلامي، لتتضمن الدساتير والقوانين كل تلك الحقوق الشرعية للإنسان في ظل الإسلام الحنيف، فيأمن المواطنون على أرواحهم ودمائهم وأعراضهم وحرماتهم ويطمئن كل منهم على أن يصبح ويمسي آمنا في سربه معافى في بدنه ساعيا في معاشه متعاونا مع غيره حرا في وطنه كريما على أهله إيجابيا في حركته شديد الولاء والانتماء لوطنه مشاركا في نهضة أمته؟.

فضيلة الشيخ العلامة أ.د.عبد الرحمن البر
عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر

شمولية التشريع في الإسلام .


في الحديث الشريف: «مَثَلُ الَّذِى يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لاَ يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا، فَقَالَ: يَا رَاعِى أَجْزِرْنِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ (يعني أعطني شاة تصلح للذبح). قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا. فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ».
وفي رواية: «مَثَلُ الَّذِي يَسْمَعُ الخُطْبَةَ ثُمَّ لَا يَعِي مَا يَسْمَعُ...».
ومعلوم أنَّ الحكمة لا تُسَمَّى شرًّا، لكن لما كانت الحكمةُ مرجعُها إلى العدل والعلم والحُكْم، كان الذي لا يسلُكُ بها سبيلَ الحق والعدل قد جعلها شرًّا، ومع أن كلبَ الغنم الذي يحرسها قد يكون خيرًا من شاة أحياناً، فإن الحديث اعتبر آخذَه هنا مخطئا؛ لأنه لما قال «أَجْزِرْنِي شَاةً» فإنه استعطى ما يُنْتَفَع بلحمه، والكلبُ لا يُنْتَفَع بلحمه، إنما يُنْتَفَع بصيده وحراسته.

سوء الفهم للشريعة:

هذا الحديث وهذا المثال المعبِّر أذكره كثيراً حين أقرأ أو أستمع لبعض مَنْ يتكلمون عن الشريعة الإسلامية، فلا يذكرون منها إلا الحدود والعقوبات، يريدون تخويف الناس بأن غاية ما يسمى بالدولة الإسلامية إنما هو إنزال تلك العقوبات بأفراد المجتمع، وأنه ليس عند دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية -بزعمهم- غير الدعوة إلى إقامة الحدود. وتلك مقولة شائهة مجانبة للصواب.

تهيئة الأمة أولا:

الحقيقة أن التشريع في الإسلام ليس محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور أولئك أو يصوّرون، والحدود ليست إلا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، التي ينبغي أن تسبقها تهيئة صحيحة للأمة من خلال نشر الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام، وحتى تفكر الأمة تفكيراً استقلالياً يعتمد علي أساس الإسلام العظيم لا علي أساس التقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، بل تتميز بمقوماتها كأمة عظيمة مجيدة تجرُّ وراءها أفضل ما عرف التاريخ من دلائل الحضارة والتقدم ومظاهر الفخار والمجد. ومن ثم فهي تستخدم كل المنابر الدينية والتعليمية والإعلامية والفنية وكل وسائل صناعة الرأي والتوجيه لتعمل على:
1-إيجاد الفرد المسلم الحر الذي يمتلك وجداناً شاعراً يتذوق الجمال والقبح، وإدراكاً صحيحاً يتصور الصواب والخطأ، وإرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق، وجسماً سليماً يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حق القيام، ويصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة، وينصر الحق والخير والقيم النبيلة، يستوي في ذلك الذكر والأنثى.
2-ثم إيجاد المجتمع المسلم الذي يطبق القيم والأخلاق الإسلامية وقواعد الحياة الاجتماعية السعيدة، من خلال تقوية آصرة الأخوة التي هي قرينة الإيمان، والتي تبدأ بتأكيد سلامة الصدور بين أبناء الأمة، وترتفع بمستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار، وتحديد الحقوق والواجبات والصلات بين سائر مكونات المجتمع، دون تمييز لأحد، والقضاء على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج، والوقاية مما يؤدي إلى ذلك، واستئصال ما عساه أن يحدث منها، والتركيز في كل علاج للمشكلات الاجتماعية على صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي بين بني الإنسان، قبل الحلول الأمنية أو العقابية.
3-ثم إقامة الحكومة العادلة التي تنشر العدل وتحفظ الحريات وتحرس القيم وتنظم العلاقات، وتعتمد على الكفاءات، وتسعى لتحقيق الكفاية، وتحرس وحدة الأمة، وتقبل رقابتها وتحترم إرادتها على كل المستويات.
4-ثم تأتي بعد ذلك الحدود التي هي الضوابط التي تحمي ذلك المجتمع وتلك الأخلاق؛ إذْ لا يمكن للمجتمع -أي مجتمع- أن تنتظم أموره دون ضبط اجتماعي.

تشريع شامل:

بهذا ترى أن التشريع في الإسلام تشريع شامل، ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، ويضع المبادئ الأساسية لتنظيم العلاقة بين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني وإداري ودستوري ودولي... إلخ ، إلى جانب أنه قانون ديني.
ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات، والمعاملات، والأنكحة، والمواريث، والأقضية، والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والآداب، فهو يضع القواعد ويرسي المبادئ الصالحة لتنظيم حياة الإنسان، من المستوى الفردي، إلى إقامة الدولة والحكومة، والإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء بهذا الشمول والكمال.
فهو يضع قواعد نظام سياسي يضمن سلامة المجتمع ويحفظ كرامته ويحقق حريات وحقوق أفراده وحصول هيبته بين المجتمعات.
ويضع قواعد نظام اقتصادي يمنع الغش والاحتكار والاستغلال، ويعمل على تنمية الموارد وتنظيم الاستفادة المثلى منها، ويضمن الكفاية بل الوفرة والرفاه والعيش الكريم لسائر الذين يعيشون تحت لوائه.
ويضع قواعد نظام أمني وقضائي يضمن حقوق الناس وأمن المجتمعات في عدالة مطلقة لا تمييز فيها.
ويضع قواعد نظام اجتماعي يحقق إقامة الأسر والبيوت على أساس متين من الترابط والحب والتعاون على البر والتقوى، ويقدم الحلول الجذرية للمشكلات الاجتماعية.
ويتميز بوضع نظام أخلاقي يعتمد تربية الضمير الحي في النفس والمراقبة الإلهية أساسا ومنطلقا للأخلاق، حتى إن المخطئ ليذهب بنفسه إلى القاضي ويصر على تطهير نفسه من الخطأ الذي وقع فيه.
وهكذا تجد في هذا الدين القويم كل النظم التي يحتاجها الفرد وتحتاجها الجماعة للعيش الآمن الرغيد والحياة الكريمة المستقرة في الدنيا، وللفوز برضوان الله وجنات النعيم في الآخرة.
ثم يأتي نظام العقوبات أو النظام الجنائي ليؤكد أن الحدود ليست سوى السياج والإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال، وبأنه مجتمع منضبط غير منفلت، وأن من لم تستقم فطرته، ولم يتوافق مع مجتمعه، ومن يسعَ في الإفساد في الأرض بغير حق؛ يجب ضبطه بهذه الحدود لإيقاف شره، ودفع ضره، وزجر غيره ممن هم على شاكلته، أو تحدثهم أنفسهم بمثل إفساده، وقد يَزَعُ الله بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن.

فضيلة الشيخ العلامة أ.د.عبد الرحمن البر
عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر

أحسنوا الظن بالمسلمين


أنصح أبنائي الشباب أن يخلعوا منظارهم الأسود، عندما ينظرون إلى الناس، وأن يفترضوا الخير في عباد الله، ويقدموا حسن الظن، وأن يعلموا أن الأصل هو البراءة، وحمل حال أهل الإسلام على الخير.

ومما يساعد على هذا السلوك المتفائل نظرات ثلاث:
الأولى: أن يعاملوا الناس باعتبارهم بشراً على الأرض، وليسوا ملائكة أولي أجنحة، فهم لم يخلقوا من نور، وإنما خلقوا من حمأ مسنون، فإذا أخطأوا فكل بني آدم خطاء، وإذا أذنبوا فقد أذنب أبوهم الأول : " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا " (طه:115).

فلا غرابة إذن  أن يعثر الناس وينهضوا، وأن يخطئوا ويصيبوا، وعلينا أن نفتح لهم باب الأمل في عفو الله ومغفرته، بجوار تخويفهم من عقاب الله وبأسه، فالعالِم كل العالم مَن لم يوئس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، وحسبنا  هنا قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (الزمر:53). فانظر إلى إيناسه سبحانه لهم، حين ناداهم يا عبادي وأضافهم إلى ذاته المقدسة، تلطفاً بهم، وتقريباً لهم من ساحته، ثم كيف فتح باب المغفرة على مصراعيه لكل الذنوب، فإنها مهما عظمت فعفو الله أعظم منها.

الثانية:  أننا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن ندع إلى الله أمر السرائر، فمن شهد أن  لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله حكمنا بإسلامه، في ظاهر الأمر، وتركنا سريرته إلى علاّم الغيوب، يحاسبه عليها يوم تظهر الخفايا، وتنكشف الخبايا، وفي الصحيح أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها، وحسابهم على الله .
ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين ـ الذين يعلم نفاقهم الباطن ـ حسب ظواهرهم، وأجرى عليهم أحكام الإسلام ، وهم يكيدون له في الخفاء، ولما اقترح عليه بعض الناس أن يقتلهم ويستريح من شرهم ومكرهم، أجابهم بقوله: أخشى أن يتحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! .

الثالثة: أن كل مَن آمن بالله ورسوله، لا يخلو من خير في أعماقه، وإن انغمس ظاهره في المعاصي، وتورط في الكبائر. والمعاصي ـ وإن كبرت ـ تخدش الإيمان وتنقص منه، ولكنها لا تقتلعه أبداً من جذوره، ما لم يفعلها من يفعلها متحدياً لسلطان الله تعالى، أو مستحلاً لحرماته، ومستخفاً بأمره ونهيه.

وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أرفق النّاس بالعصاة، ولا تمنعه معصية أحدهم أن يفتح له قلبه، وينظر له نظرة الطبيب إلى المريض، وليس نظرة الشرطي إلى المجرم.

جاء فتى من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنى، فثار الصحابة وهموا به، لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف منه موقفاً آخر: قال : ادنُه. .  فدنا، فقال: أتحبّه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته..  في كل ذلك يقول: أتحبه لكذا؟ فيقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه .. فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصن فرجه.. فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء (رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، كما في مجمع الزوائد : 1/129 )، وإنما عامله صلى الله عليه وسلم بهذا الرفق، تحسيناً للظن به، وأن الخير كامن فيه، والشر طارئ عليه، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله، واطمأن قلبه إلى خبث الزنى وفحشه، وكسب مع ذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .

قد يقال: هذا رجل لم يقترف المعصية بعد، فهو أهل أن يعامل بالرفق والملاينة، بدل الفظاظة والمخاشنة.

فإليك هذا المثل، وهو تلك المرأة الغامدية التي زنت، وهي محصنة، وحملت من الزنى، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها بإقامة الحد عليها، فما زالت به حتى أقام عليها الحد، ولمما بدرت من خالد بن الوليد جملة فيها سبها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتسبها يا خالد؟ واللهِ لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتاً من أهل المدينة لوسعتهم!  وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟ (رواه مسلم وغيره).

قد يقال : هذه عصت، ولكنها تابت..
فإليك هذا المثل الآخر:
هذا الصحابي الذي ابتلي بالخمر وأدمنها، وأتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة شارباً، فيضرب ويعاقب، ثم يغلبه إدمانه أو شيطانه، فيعود إلى الشرب، ثم يؤتى به، فيضرب ويعاقب..  وهكذا عدة مرات، حتى قال بعض الصحابة يوماً، وقد جيء به شارباً: ما له لعنه الله؟  ما أكثر ما يؤتى به!
وهنا لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم على لعن هذا المسلم، رغم مقارفته لأم الخبائت، وظهور إصراره عليها وإدمانه لها، وقال للاعنه: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله.
وفي رواية: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم!

فانظر رحمك الله وإيانا إلى هذا القلب الكبير كيف وسع هذا الإنسان وأحسن به الظن، رغم تلطخه بالإثم!  وكيف لمح كوامن الخير في أعماقه، برغم ظواهر الشر على غلافه!  فوصفه بأنه  يحب الله ورسوله ولهذا نهى عن لعنه، لأن هذا يحدث فجوة بينه وبين إخوانه المؤمنين، فيبتعد عنهم، ويبتعدون عنه، وهنا يقترب منه الشيطان، وهذا من أسرار قوله لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم ولم يفصم عروة الأخوة بينه وبينهم، بسبب المعصية، وهي كبيرة تكررت، لأن أصل الإسلام يجمعهم به، ويجمعه بهم.

فليفقه هذه النظرة النبوية العميقة، وهذه التربية المحمدية العالية، أولئك الذين يسيئون الظن بجمهور الناس، ويسقطون عصاتهم من الحساب، وليتعلم من هذا الدرس المنزلقون إلى بدعة التكفير بالمعاصي، فلو فقهوا وتأملوا، لعلموا أن الذين يكفرونهم ليسوا مرتدين يجب أن يقتلوا، بل جاهلين بحقيقة الدين يجب أن  يعلموا، أو متورطين في المعصية بتأثير صحبة السوء وبيئة السوء يجب أن ينقذوا، أو غافلين عن الآخرة بمشاغل الدنيا يجب أن ينبهوا ويذكروا، والذكرى تنفع المؤمنين.

إن لعن الناس ولو كانوا عصاة منحرفين، لا يصلحهم ولا يقربهم من الخير، بل هو أحرى أن يبعدهم عنه، وأولى من هذا الموقف السلبي أن تتقدم من أخيك العاصي، فتدعوه أو تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان.. وقد قال الحكيم: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة تنير الطريق!
هذا ما أردت أن أنصح به لأبنائي من شباب الإسلام المتوقد، الذين أكن في قلبي أعمق الحب لهم، وأعظم الاشفاق عليهم، ولا أقول إلا ما قال خطيب الأنبياء، شعيب عليه السلام: " إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " (هود:88).

العلامة الشيخ أ.د.يوسف بن عبد الله القرضاوي
رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الاثنين، 27 أغسطس 2012

صلاح الدين الأيوبي رحمه الله


سلاماً صلاح الدين يا خير قائد *** بأمجاده تاج الفتوح تزينا
سلاماً صلاح الدين إنا بحاجة لمثلك *** من يعلى على الحق صرحنا
به نُدرك الغايات طراً وإننا على ***  موعد الفجر الذي قد قادنا

المجاهد الرباني، صاحب معركة حطين التي سُميت (مجزرة الصلبيين) في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وكان عدد الأسرى ثلاثين ألفا من شجعانهم، وقتل منهم ثلاثون ألفا.
بلغ ثمن الأسير في دمشق ثلاثة دنانير، ويباع الرجل وزوجته وأولاده في النداء بيعة واحدة، ولقد بيع رجل وامرأته وخمسة أولاد لهما بثمانين ديناراً، وأخذ صليب الصلبوت، وعلق على قنطارته منكساً، ودُخل به إلى دمشق وكان رؤوس الفرنج مثل البطيخ، وقيل إن بعض فقراء العسكر من المسلمين باع أسيراً بزربول (حذاء)[1] فقيل له في ذلك، فقال: "أردت أن يقال بلغ من كثرتهم وهوانهم أن بيع واحد منهم بزربول".
وقال الحافظ ابن كثير: "ذُكر أن بعض الفلاحين رآهُ بعضهم يقود ألفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطُنُب خيمٍة، وباع بعضهم أسيراً بنعلٍ ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً" [2]. هكذا تكون الهمم يُباع الرجل من الفرنج بحذاء فليشهد على ذلك التاريخ ولكن هل سيتكرر ذلك؟ ومتى؟!
يقول القاضي ابن شداد: "لقد رأيته - رحمه الله - مرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة الدمامل التي كانت قد ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس وإنما يكون مُتكئاً على جنبه إن كان بالخيمة، وامتنع من مدّ الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكأن يأمر أن يُفرق على الناس وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية للقتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة الضربان الدمامل وأنا أتعجب من ذلك. فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل، وهذه عناية ربانية.
ولقد مرض - رحمه الله - ونحت على الخروبة، وكان قد تأخر عن (تل الحجل) بسبب مرضه فبلغ الإفرنج ذلك فخرجوا طمعاً في أن ينالوا شيئاً من المسلمين بسبب مرضه وهي نوبة النهر، فخرجوا في رحلة إلى الآبار التي تحت التل ثم رحل العدو في اليوم الثاني يطلبنا، فركب - رحمه الله - على مضض ورتب العسكر وجعل أولاده في القلب ونزل هو وراء القوم بطلبه وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار وهو يستدير إلى ورائهم حتى يقطع بينهم وبين خيامهم، وهو - رحمه الله - يسير ساعة ثم ينزل يستريح ويُظَلَّل على رأسه بمنديل من شدّة الشمس ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر ونزل هو قُبالتهم على تل مُطلّ عليهم إلى أن دخل الليل ثم أمر العسكر أن تعود إلى محل المصابرة وأن يبيتوا تحت السلاح وتأخر هو إلى قمة الجبل وضُربت له خيمة لطيفة، وبت تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونُشاغله وهو ينام تارةً ويستيقظ أخرى حتى لاح الصباح ثم ضرب البوق وركب - رحمه الله - وركب العسكر.
وفي ذلك اليوم قدّم أولاده بين يديه احتساباً، الملك الظاهر والملك الظافر وجميع من حضر منهم ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير، فيظن الرائي لها عن بُعد أن تحتها خلقاً كثيراً وليس تحتها إلا واحد بخلق عظيم - رحمه الله -."
ولم يخلف الذهب ولا الفضة وترك لأولاده سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً.
قال القاضى ابن شداد عن يوم موت صلاح الدين: "كان يوماً لم يصب المسلمون والإسلام بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدين، وغشى القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمها إلا الله" [3].
قال ابن شداد: "وذُكر أنه دفن معه سيفه الذي كان معه في الجهاد، وكان ذلك برأي القاضي الفاضل حيث قال: هذت يتوكأ عليه في الجنة".
وكان - رحمه الله - يصلح في سور القدس، وكان يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأماكن البعيدة فيقتدي به العسكر.

قُم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ***  ثأرٌ طويل ولهيب العار يكوينا
قم يا بلال وأذن صمتنا عدم *** كل الذي كان طُهراً لم يعد فينا
هل من صلاح يعيد الصيف في *** يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا
هل من صلاح يداوي جرح أمته ***  ويطلع الصبح ناراً من ليالينا
هل من صلاح لشعب هَدَّهُ أملٌ *** مازال رغم عناد الجرح يشفينا
جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني *** جئنا نداويك وتأبى أن تداوينا
إني أرى القدس في عينيك ساجدة ***  تبكي عليك وأنت الآن تبكينا
مازال في العين طيف القدس يجمعنا ***  لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا

وقف (غورو) أمام قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: "ها قد عُدنا يا صلاح الدين".
تكلم كأن الغدر يهدر من فم *** وتنطلق الأحقاد من كلمات
فدوى هنا ينهي الصليب حروبه *** ويمضي فنون الموت والفتكات
ويمضى مع الأيام نهج إبادة وخطة تمزيق ووأد حياة..
أرسل شاب من أهل دمشق كان مأسوراً في بيت المقدس رقعة إلى صلاح الدين فيها هذه الأبيات:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس
جاءت إليك ظلامةٌ تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي مُنجَّس

بقلم الشيخ :-
محمد بن عبد الملك الزغبي

----------------------------------------
[1] انظر عيون الروضتين (2/135-137) ط. الفكر.
[2] أنظر البداية والنهاية (12/342) ط. دار الغد العربي
[3] انظر عيون الروضتين (2/289-290)

سعيد بن جبير رحمه الله


كان الحجاج بن يوسف الثقفي من الولاة الظالمين الغاشمين، وقد عمت سيئاته الأمة بأسرها.
كان خالد بن عبد الملك القسري واليا على مكة، وقد خُبِّرَ بوجود سعيد بن جبير في ولايته، فأراد أن يتخلص منه، فألقى القبض عليه واعتقله، وأرسل إلى الحجاج الظالم ودخل الإمام على الظالم.
قال الحجاج: ما اسمك؟
قال سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
قال سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقيت أمك وشقيت أنت.
قال سعيد: الغيب يعلمه الله.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
الحجاج: فما قولك في محمد؟
قال سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى.
الحجاج: فما قولك في عليّ أهو في الجنة أم في النار؟
سعيد: لو دخلت وعرفت من فيها، عرفت أهلها.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدقني.
سعيد: إن لم أحبك لن أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار!!!
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج بالذهب والفضة واللؤلؤ والزبرجد فجمعه بين يديه.
فقال سعيد: إن كنت جمعته لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء من الدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد.
فقال الحجاج: ما يبكيك أهو اللعب؟
قال سعيد: هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق!! وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة!!!
فقال الحجاج: ويلك يا سعيد.
فقال سعيد: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة.
قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟
قال سعيد: اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟
قال سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك فأخبر الحجاج بذلك، فردوه إليه.
قال الحجاج: ما أضحكك؟
قال سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط، وقال اقتلوه.
قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة.
قال سعيد: فأينما تولوا فَثَمَّ وجه الله.
قال الحجاج: كبوه على وجه.
قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
قال الحجاج: اذبحوه.
قال سعيد والسكين على رقبته وقد استسلم لقضاء الله: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، اللهم لا تسلطه على أحد يقتله من بعدي.
وعاش الحجاج بعده أيام قلائل، قيل ثلاثة وقيل خمسة، وقيل خمسة عشر، وقيل أكثر من ذلك، فسلط الله على الحجاج البرودة حتى كان والنار حوله يضع يده في الكانون فيحترق الجلد ولا يحس بالحرارة، ووقعت الأكلة في داخله والدود، فبعث إلى الحسن البصري فقال: "أما قلت لك لا تتعرض للعلماء؟ قتلت سعيداً"!!!
ويقال: إنه كان في مرضه كلما نام رأى سعيداً آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً فيقول: مالي وسعيد بن جبير، فسبحان الله الحليم الكريم يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 144)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم: 42).
قتل - رحمه الله – (95هـ)، - رحمه الله تعالى - ورضي عنه.
أعرض عن الهجران والتمادي*** وارحل لمولى منعم جواد
ما العيش إلا في جواره سارة*** قد شربوا من خالص الوداد
وصدق القائل:
خذوا كل دنياكم واتركوا*** فؤادي حراً وحيداً غريباً
فإني أعظمكم دولة *** وإن خلتموني طريداً سليباً
بقلم الشيخ :-
محمد بن عبد الملك الزغبي

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله


قال أبو غالب بن معاوية: "ضُرب أحمد بن حنبل بالسَّياط في الله فقام مقام الصِّدِّيقين في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين".
أُخذ أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن أيام المأمون، ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، وأُخذ معه أيضاً محمد بن نوح مقيدين، ومات المأمون قبل أن يلقاه أحمد، فردَّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في أقيادهما، فمات محمد بن نوح في الطريق، ورُد أحمد إلى بغداد مقيداً.
انظر إلى فعل هؤلاء العلماء، ويا لهم من علماء، دخل الإمام أحمد حفاظ أهل الحديث بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذُاكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال أحمد: "كيف تصنعون بحديث خباب ((إنه كان قبلكم كان ينشر أحدكم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه))"، فيئسوا منه.
قال الإمام أحمد: "كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد"، ووضعوا في رجله أربعه قيود، ولما مات المأمون ردَّ أحمد إلى بغداد، فسُجن إلى أن امتحنه المعتصم.
قال أحمد: "لست أُبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السَّوط".
فبإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: أنه كان يقول: "كنت كثيراً أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم، فقلت: من أبو الهيثم؟
قال: أبو الهيثم الحداد، لما مُدت يدي إلى العقاب، وأُخرجت للسياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا.
قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين".
قال أبو بكر المروزي: "لَّما سجن أحمد بن حنبل جاء السجان فقال له: يا أبا عبد الله، الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟
قال الإمام أحمد: نعم.
قال السَّجَّان: فأنا من أعوان الظلمة؟
قال الإمام أحمد: فأعوان الظلمة من: يأخذ شعرك، ويغسل ثوبك، ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن الظلمة أنفسهم".
ولما أمر المعتصم بحمل أحمد إليه، وكان قد سجنوه في رمضان في دار إسحاق بن إبراهيم، دخل عليه إسحاق فقال: "يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يُلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس"، وجيء إلى أحمد بدابة، فحُمل عليها وعليه الأقياد، وكاد غير مرة أن يخرّ على وجهه لثقل القيود، فجيء به إلى دار المعتصم، وأدخلوه في حجرة، وأقفل الباب عليه، وذلك في جوف الليل وليس في البيت سراج، فلما كان الغدُ أخرجوه إلى الخليفة ليناظره أحمد بن أبي دواد والمعتصم يقول: "والله لئن أجابني لأُطلقن عنه بيدي، ولأركبَّن إليه بجندي، ولأطأن عقبه".
ثم قال: "يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، إني لأشفق عليك كشفقتي على هارون ابني، ما تقول"؟
فأقول: "أعطوني شيئاً من كتاب الله - عز وجل - أو سنة رسوله".
ومرة أخرى يقول المعتصم لأحمد: "ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي"؟
قال أحمد: "سمعت باسمه. قال: كان مؤذني وكان في ذلك الموضع جالساً -وأشار إلى ناحية من الدار- فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوُطئ وسُحب".
وبعد ثلاث أيام من المناظرة والإمام أحمد يُفحم المبتدعة.
قال المعتصم: "العقابين والسياط"، فجئ بهم، قال أحمد: "لما جيء بالسياط، نظر إليهم المعتصم فقال: ائتوني بغيرها، فأتي بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إليّ الرجل فيضربني سوطين، فيقول له المعتصم: شُدَّ قطع الله يدك، ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربني سوطين وهو في ذلك يقول لهم: شُدَّوا قطع الله أيديكم، فلما ضُربت تسعة عشر سوطاً قام إليّ -يعني المعتصم- فقال: يا أحمد علام تقتل نفسك؟؟ إني عليك والله شفيق.
فقال الإمام: فجعل عُجيف ينخسني بقائم السيف، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك، الخليفة على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: ويحك يا أحمد، من صنع من أصحابك في هذا الأمر.
ما تصنع؟ قال: وجعل المعتصم يقول: ويحك يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أُطلق عنك بيدي.
قال: فقلتُ يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به. قال: فرجع وجلس، فقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو في خلال ذلك يقول: شُدَّ قطع الله يدك.
قال أحمد: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إننا كببناك على وجهك وطرحنا على جنبك بارية ودسناك.
قال أحمد: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ.
قال الإمام: لست أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم في ثوبك؟! فقلت -أي أحمد-: وقد صلى عمر وجرحه يثغب دماً".
مكث الإمام أحمد منذ أن أخذ وحمل إلى أن ضرب وخليّ عنه ثمانية وعشرين شهراً.
قال بعض الجلادين: "لقد بطل أحمد الشُّطّار والله، لقد ضربته ضرباً لو أُبرك لي بعير فضربته ذلك الضرب لنقبت عن جوفه".
وصدق القائل:
ضربوا ابن حنبل بالسياط بظلمهم *** بغياً فُثِّبت بثبات الأنور
قال الموفق حين مدُد بينهم *** مد الأديم مع الصعيد القرر
إني أموت ولا أبوء بضجرةٍ *** تصلي بوائقها محل المفتري
وقال آخر:
هانت عليه نفسه في دينه *** ففدى الإمام الدين بالجُثمان
لله ما لقي ابن حنبل صابراً *** عزماً وينصره بلا أعوان

بقلم الشيخ :-
محمد بن عبد الملك الزغبي

الجمعة، 24 أغسطس 2012

جريمة الربا

يتعرض العالم أجمع في هذه الأيام لأزمة اقتصادية طاحنة ، بنوك أفلست ، واقتصاد دول قد اهتز ، وبين عشية ليلة وضحاها خسرت كبري الدول مليارات بل تريليونات وكل هذا سببه الجريمة التي نحن بصدد الحديث عنها ألا وهي (( جريمة الربا )) .
جريمة الربا هي أساس المفاسد وأصل الشر الواقع للأمة ، وهي الصور المعاكسة والمقابلة للصدقة والبر الإحسان .

الصدقة
الربا
الصدقة : عطاء ، وسماحة ، وطهارة ، وزكاه ، وتعاون ، وتكافل بين جميع أفراد المجتمع ، بين الغنيّ والفقير .

الربا : شح ، وقذارة ، ودنس ، وجشع ، وغش ، وأَثرة ، وأنانية ، وخداع ، وزيادة في غني الغنيّ ، وزيادة في فقر الفقير .  
الصدقة : نزول عن المال بلا عوض إنتظاراً للأجر والثواب من العاطي الوهاب .
الربا : استرداد للدين ، ومعه زيادة من حرام يقتطعها الدائن من جهد المدين أو من لحمه ودمه .

فلا عجب إذاً في أن يعتبر الإسلام ُ الربا من أعظم المنكرات وأكبر الجرائم وأن يعلن الحرب علي المرابين قال الله تعالي 
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) [البقرة 279]. 



ما هو مفهوم الربا ؟
الربا في اللغة
هو الزيادة المطلقة فيقال ربا الشيء يعني زاد قال الله ( وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ ) [الحج 5] .
وقد جاء في الحديث الطويل الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم يقول الراوي – راوي الحديث – (( وأيم الله ما كنا نَأخُذُ من لُقمَةٍ إلا رَبَا من أَسفَلِهَا ))[1] والحديث يعني : زاد الطعام ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم .
وأما معناه في الشرع :
فالربا زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل .
قال ابن العربي [2] في أحكام القرآن : الربا هي كل زيادة لم يقابلها عوض [3] .

يتمثل الربا فى الزيادة المشروطة والمحددة سلفاً فى أصل المال سواء أكان نقداً أو عرضا نظير الزيادة فى الأجل أو الانتظار , أي مبادلة مال بمال وزيادة بدون وساطة سلعة.
ويختلف الربا عن الربح الحلال الذى ينتج عن عمليات البيع المشروع والذى يتمثل فى الزيادة فى أصل المال نظير تقليبه وتحريكه وتعرضه للمخاطر المختلفة خلال دورته أي الربح الذى يخضع لقاعدة الغنم بالرغم , والكسب بالخسارة والأخذ بالعطاء .... وهكذا يتبين الفرق بين الربا الخبيث والربح الطيب الحلال .
وكل أنواع الربا محرما شرعاً سواء أكان ربا ديون أو ربا بيوع أو ربا قروض استهلاكية أو ربا قروض إنتاجية , هذا وتعتبر الفائدة المعروفة فى هذه الأيام من الربا المحرم شرعاً مهما اختلفت تسمياتها , وهذا ما أقره مجمع البحوث الإسلامية ف مؤتمر الثاني المنعقد فى القاهرة فى المحرم عام 1385هـ مايو 1965م.


كتبه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن


[1] هذا جزء من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب السمر مع الضيف والأهل (577) ورواه مسلم في الأشربة باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2057).
[2] هو العلامة الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي المالكي وكان فقيهاً عالماً وزاهداً عابداً وشارح لسنن الترمذي وقد توفي سنة 545 من الهجرة ((انظر البداية والنهاية 12/228)).
[3] انظر أحكام القرآن 1/321 .