الدولة الدينية شيء والدولة
ذات المرجعية الإسلامية شيء آخر.. شيء ليس مختلفا فحسب، بل إنه بالكلية مخالف. والمخالفة
تعني وجود تناف بين المعنيين وتغاير بين المنظومتين، واختلاف جذري بين المرجعيتين.
فالدولة الدينية تحيل إلى المقدس،
أي إلى مرجعية السلطة المقدسة، تلك التي تزعم أن لها صفة تعلو على الصفة البشرية
ما دامت من طبيعة غير آدمية. إنها دولة الحق الإلهي أو الحق المقدس للملوك.
أما الدولة ذات المرجعية
الإسلامية فليست من الدولة الدينية في شيء، وقد يكفي في فهم ذلك أن نقول إنه لا
أحد من فقهاء الفكر السياسي في الإسلام في العصر الوسيط، حيث كانت نظرية الحق
الإلهي هي السائدة في العالم المسيحي، كان منه ما يشبه بالتقاء مع نظرية الحق
المقدس، أي السلطة التي تعلو على الطبيعة البشرية وتجعل الماسك بزمامها فوق
المحاسبة ما دام يستمد التفويض من الإله ذاته.
نعم إن لدولة الخلافة كما
يبسطها الماوردي أو غيره من منظري الدولة في الإسلام صلة قوية بالشرع وللدين
الإسلامي فيها حضور قوي، فاعل، ولكن هذا الواقع يفيد بأن المرجعية العليا للدولة
إسلامية دون أن ينفي عن الدولة مقتضيات السياسة والفعل السياسي البشري الذي يحتمل
الإصابة والخطأ ويستدعي التقويم والمراجعة ويستوجب تقديم الحساب والخضوع لشروط
بشرية محضة. بنية الدولة التي يشرع لها الفقيه السياسي في الإسلام بناء سياسي يقوم
بموجب قوانين السياسة ويعمل بموجب أحكامها وآلياتها ويستمد من تجارب الأمم والشعوب
المختلفة، مسلمة كانت أو غير ذلك.
فعندما ترتفع اليوم، في هذه
الجهة أو تلك، في الساحة العربية أصوات تدين الدولة الدينية فهي تكون في حقيقة
الأمر في توافق كامل مع مقتضيات الدين الإسلامي كما يدركها الفكر السياسي في
الإسلام .
ما هي الدولة المدنية وما
السمات الكبرى التي تميزها عن الدولة الدينية؟
الدولة المدنية، في وصف عام
لها، هي دولة القانون والمؤسسات، فالقانون هو السلطة العليا التي يكون الاحتكام
إليها، والكل سواسية أمام القانون، والمؤسسات تقوم في استقلال عن الأفراد والسلطات
متمايزة عن بعضها البعض، فلا تداخل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة
القضائية في استقلال عن السلطتين، وهذه بعض العناصر التي تشرح الدولة المدنية من
حيث بنيتها.
والدولة المدنية، من حيث
العماد الحقوقي الذي تقوم عليه، هي دولة المواطنين، والمواطنة هي الرابطة القوية
التي تربط بين المنتسبين إلى البلد الواحد والدولة الواحدة.
والآن ما الصورة التي كانت
ترتسم للدولة في الوعي الإسلامي في العصر الوسيط الإسلامي؟
من العبث أن ندعي أنها صورة
الدولة المدنية علي النحو الذي لمحنا فيه أعلاه إلى بعض سمات هذه الأخيرة
(المواطن، المواطنة، الجنسية، تداول السلطة...) ولكن من الخطل في الرأي والخلل في
الإدراك أن نقول إن الدولة الإسلامية، كما يشرع لها أبو الحسن الماوردي ومن كانوا
في مستوى علمه وسعة أفقه من العلماء والمنظرين للفكر السياسي، نظير أو مقابل
موضوعي للدولة الدينية. لا نرسل القول على عواهنه ولا يتسع المقال لبسط القول في
«دولة الخلافة»، ولكننا ننبه إلى جملة أوليت لأي أحاديث المفكرين السياسيين الذين
نعتبرهم سلطة مرجعية يصح الاحتكام إليها. أول هذه الحقائق هو أن الهم الذي يوجه
المفكر السياسي، من طينة من نشير إليهم، هم سياسي، بمعنى أنه يتصل بالوجود العيني
للبشر وبتدبير العلاقات التي تقوم بينهم بحسبانهم بشرا. وثاني الحقائق أن الفكر
السياسي في الإسلام كان دوما منفتحا أكبر ما يكون الانفتاح على «تجارب الأمم» ومن
ثم كان همه تحري طبائع العمران (كما يقول ابن خلدون) والبحث عما يقضي به «حكم
الوقت» (كما يقول الماوردي). وحيث إن الكثيرين ممن يتحدثون اليوم عن الدولة
الإسلامية من حيث إنها تتصل من جهات شتى بالدولة الدينية (كما عرضنا لخصائصها
الكبرى في الحلقة السابقة) فنحن قد نفاجئ هؤلاء متى ذكرنا أن الفقيه الشافعي،
المعتبر عمدة في المذهب، يرى أن في الإمكان إسناد وزارة التنفيذ (وبالتالي الوزارة
في لغتنا اليوم) إلى الذمي، وبالتالي فليس الإسلام شرطا مطلقا في تقلد الوزارة في
الدولة الإسلامية. وبالتالي فقد كانت الدولة في الإسلام دولة انفتاح لا انغلاق،
دولة تقصي شرع الله على الحقيقة، دون تزييف وإسفاف، دولة شعارها الأكبر: حيثما
كانت المصلحة فثم شرع الله. ومن ثم فهي تكون مرنة مفتوحة.
بقلم :
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق