يحدث في كثير من الأحيان أن تغتصب
نساء مسلمات وبخاصة في الحروب كما حدث في البوسنة والهرسك، وكذلك في الشيشان
وغيرهما، وقد حدث ذلك للنساء في المعتقلات وبخاصة في سجون الطغاة على أيدي
الزبانية، فما حكم إجهاض الجنين الذي تشعر المرأة المسلمة المغتصبة بحركته في
أحشائها: هل يحرم إجهاضه بإطلاق، أم يباح إجهاضه بإطلاق، أم يفرق بين ما قبل نفخ
الروح وما بعده، ولا سيما في حالات العذر الظاهر؟
يقول الشيخ يوسف القرضاوي مجيباً
على سؤال وجه إليه من بعض نساء المسلمين المغتصبات في البوسنة والهرسك: أحب أن
أؤكد أولاً: أن هؤلاء النسوة من أخواتنا وبناتنا، ليس عليهن أي ذنب فيما حدث لهن،
ما دمن قد رفضن وقاومن في أول الأمر، ثم أكرهن عليه تحت أسنَّة الرماح، وضغط القوة
الباطشة، وماذا تصنع أسيرة أو سجينة مهيضة الجناح، أمام آسر أو سجان مدجج بالسلاح؟
لا يخشى خالقًا، ولا يرحم مخلوقًا؟!
والله تعالى قد رفع الإثم عن
المكره فيما هو أشد من الزنى، وهو الكفر، والنطق به، قال تعالى: (إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان)· (النحل: 106).
بل إن هؤلاء البنات والأخوات
يؤجرن على ما أصابهن من البلاء، إذا تمسكن بإسلامهن الذي ابتلين وامتحن به،
واحتسبن ما نالهن من الأذى عند الله عز وجل ، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم > :ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب،
ولاهمِّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمِّ ـ حتى الشوكة يشاكها ـ إلا كفَّر الله بها من
خطاياه·< رواه البخاري: في كتاب المرضى·
باب: ما جاء في كفارة المرض·
فإذا كان المسلم يثاب في الشوكة يشاكها، فكيف إذا
انتهك عرضه أو لوِّث شرفه؟!
أما إجهاض الحمل، فإن الأصل في
الإجهاض هو المنع، منذ يتم العلوق، أي منذ يلتقي الحيوان المنوي الذكر بالبيضة
الأنثوية، وينشأ منهما ذلك الكائن الجديد، ويستقر في قراره المكين في الرحم·
فهذا الكائن له احترامه وإن جاء
نتيجة اتصال محرَّم كالزنى، وقد أمر الرسول المرأة الغامدية التي أقرت بالزنى
واستوجبت الرجم، أن تذهب بجنينها حتى تلد، ثم بعد الولادة أن تذهب به حتى يُفطم·
وهذا ما اختاره للفتوى في الحالات
العادية، وإن كان هناك من الفقهاء من يجيز الإجهاض إذا كان قبل مضي أربعين يومًا
على الحمل، عملاً ببعض الروايات التي صحت بأن نفخ الروح في الجنين يتم بعد أربعين
أو اثنين وأربعين يومًا·
بل من الفقهاء من يرى الجواز إذا
كان قبل مضي ثلاث أربعينات أي قبل مئة وعشرين يومًا، عملاً بالرواية الأكثر شهرة
بأن نفخ الروح يتم عند ذلك. والذي نرجحه هو ما ذكرناه أولاً، ولكن في حالات
الأعذار لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة
أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة·
ولا ريب أن الاغتصاب من عدو كافر
فاجر، معتد أثيم، لمسلمة عذراء طاهرة ـ عذرٌ قوي، لدى المسلمة ولدى أهلها، وهي
تكره هذا الجنين ـ ثمرة الاعتداء الغشوم ـ وتريد التخلص منه·· فهذه رخصة يفتى بها
للضرورة، التي تقدر بقدرها·
ونحن نعلم أن هناك من الفقهاء من
شدد في الأمر، ومنع الإسقاط ولو بعد يوم واحد من الحمل، بل هناك من حرَّم لمجرد
الامتناع الاختياري عن الإنجاب، بمنع الحمل من قبل الرجل أو المرأة أو من كليهما،
مستدلين بما جاء في بعض الأحاديث من تسمية (العزل) بـ (الوأد الخفي)· فلا غرو أن
يُحرَّم الإجهاض بعد الحمل.
والأرجح هو التوسط بين المتوسعين
في الإجازة، والمتشددين في المنع·
والقول: إن (البيضة) مذ يلقحها
الحيوان المنوي تصبح (إنسانًا) إنما هو لون من (المجاز) في التعبير، فالواقع أنها
(مشروع إنسان)، صحيح أن هذا الكائن يحمل الحياة، ولكن الحياة درجات ومراتب،
والحيوان المنوي نفسه يحمل الحياة، والبييضة قبل تلقيحها أيضًا تحمل الحياة، ولكن
هذه وتلك ليست هي الحياة الإنسانية التي تترتب عليها الأحكام·
ومن ثم تكون الرخصة مقيدة بحال
العذر المعتبر، الذي يقدره أهل الرأي من الشرعيين والأطباء والعقلاء من الناس، وما
عدا ذلك يبقى على أصل المنع·
على أن من حق المسلمة التي ابتليت
بهذه المصيبة في نفسها، أن تحتفظ بهذا الجنين، ولا حرج عليها شرعًا، كما ذكرت، ولا
تجبر على إسقاطه، وإذا قدر له أن يبقى في بطنها المدة المعتادة لحمل ووضعه، فهو
طفل مسلم، كما قال النبي
صلي الله عليه وسلم : > كل مولود يولد على الفطرة···
<· رواه
البخاري: كتاب الجنائز· باب: ما قيل في أولاد المشركين· والفطرة هي التوحيد وهي
الإسلام· ومن المقرر فقهاً: أن الولد إذا اختلف دين أبويه، يتبع خير الأبوين
ديناً، وهذا فيمن له أب يعرف، فكيف بمن لا أب له؟ إنه طفل مسلم بلا ريب·وعلى المجتمع المسلم أن يتولى
رعايته والإنفاق عليه، وحسن تربيته، ولا يدع العبء على الأم المسكينة المبتلاة،
والدولة في الإسلام مسؤولة عن هذا الرعاية بوساطة الوزارة أو المؤسسة المختصة، وفي
الحديث الصحيح المتفق عليه >:كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته<·
رواه
البخاري: كتاب الجمعة· باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم: كتاب الإمارة· باب
فضيلة الإمام العادل· انظر فتاوى معاصرة للشيخ القرضاوي: 2/609 ـ 216· دار الوفاء·
ط ثالثة· 1415هـ·
ويقول الدكتور >عبد الفتاح محمود إدريس<
ـ أستاذ
الفقه المقارن في جامعة الأزهر ـ مستدلاً بحديث الغامدية ومعلقا عليه: إن رسول
الله
صلي الله عليه وسلم لم يستفصل منها عما إذا كان زنا ماعز بها قد تم برضاها أو
بإكراهها عليه، كما لم يستفصل منها إن كان حملها في أشهره الأولى أو بعد ذلك، فلو
كان حكم الإجهاض يختلف باختلاف ظروف ارتكاب الفاحشة وعمر الجنين لاستفصل رسول الله
صلي الله عليه وسلم عن ذلك، ولَبَيَّنَ لها ـ وقد ذكَرَت أنها حُبلى ـ أن لها أن
تُجهض هذا الجنين إن كان عمره كذا أو نحو ذلك، لأنه وقت الحاجة إلى البيان، وتأخير
البيان عن وقت الحاجة إليه لا يجوز، فلما لم يستفصل ولم يبين دل على حرمة إجهاض
الجنين ولو كان من سفاح، أياً كانت ظروف ارتكاب الفاحشة أو عمر الجنين·
إن الجنين قبل نفخ الروح فيه له
حرمة، وإن لم تكن كحرمة من نُفخت فيه الروح، وهذه الحرمة تقتضي حرمة الاعتداء
عليه، فإذا نُفخت فيه الروح بعد مضيّ مئة وعشرين يومًا من بدء الحمل به فإن
الاعتداء عليه في هذه الحال يكون قتلاً لنفس حرَّم الله قتلها إلا بالحق، وليس من
الحق إزهاقُها لمجرد إتيانها من سفاح· من
فتوى لـ د.عبد الفتاح إدريس على موقع إسلام أون لاين.
ولا شك أن الأصل حرمة الإجهاض،
ولا سيما إن نفخت فيه الروح، وما دام للفقهاء اختلاف قبل نفخ الروح ففي مثل حالات
الأعذار ـ التي منها بلا شك اغتصاب العدو لها، أو اغتصاب الزبانية لها في سجون
الطغاة ـ لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، كما يقول الشيخ القرضاوي، استثناء
من الأصل، وإباحة للمحظور بالضرورة القاهرة التي تقدر بقدرها، وكلما كان العذر
أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة،
على أن لها أن تحتفظ به في بطنها، ولا حرج عليها، وعلى المجتمع أن يتولاه، وألا
ينظر إلى هذه المرأة المكسورة نظرة سوء.
والله أعلم·
د. وصفي عاشور أبو زيد
ـ
باحث في العلوم الشرعية ـ
جامعة القاهرة 2010-09-03
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق