قال
العلامة محمد بن أبى بكر المعروف بابن قيم الجوزية -رحمه الله- بعد تفسير
المعوذتين ، قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به
منه ، وذلك فى عشرة أسباب :
الأول : الاستعاذة بالله من الشيطان :
قال الله تعالى : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [ فصلت : 36 ] .
وفى موضع آخر (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأعراف : 200] ، والسمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد
السمع العام ، وعن عدى بن ثابت عن سليمان ابن صرد قال : كنت جالساً مع النبى صلى
الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجة ، فقال النبى صلى
الله عليه وسلم : "إنى لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد .. " .الثانى : قراءة المعوذتين :
قراءة هاتين السورتين لها تأثير عجيب فى الاستعاذة بالله من شره ،
ودفعه والتحصن منه ، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم : "ما تعوذ المتعوذون بمثلهما" ، قال : وقد تقدم أنه
كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة ، وقوله صلى
الله عليه وسلم : "إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسى وثلاثاً حين
يصبح ، كفته من كل شيء" .
الثالث : قراءة آية الكرسى :
الرابع : قراءة سورة البقرة :
ففى الصحيح من حديث سهيل عن أبيه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وإن البيت الذى تقرأ فيه البقرة لا
يدخله الشيطان"
.
الخامس : خاتمة سورة البقرة :
فقد ثبت فى الصحيح من حديث أبى مسعود الأنصارى قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه" .
وعن النعمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن
الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفى عام ، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة
البقرة ، فلا يقرآن فى دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان" .
السادس : أول سورة حم المؤمن :
إلى قوله تعالى : [ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ] مع آية الكرسى ، ففى
الترمذى من حديث عبد الرحمن بن أبى بكر عن ابن أبى مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبى
سلمة عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ حم
المؤمن إلى[ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ] وآية الكرسى حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى ، ومن
قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح" .
وعبد الرحمن المليكى وإن كان قد تكلم فيه من قبل
حفظه فالحديث له شواهد فى قراءة آية الكرسى .
السابع : لا إله إلا الله وحده لا شريك له :
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير فى يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكُتبت له مائة حسنة ،
ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى ، ولم يأت أحد
بأفضل مما جاء به إلا رجل عم أكثر من ذلك" .
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة ، يسير سهل على من يسره الله
عليه.
الثامن : كثرة ذكر الله :
وهو من أنفع الحروز من السيطان : كثرة ذكر الله عز وجل ففى الترمذى
من حديث الحارث الأشعرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أمر يحيى
بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ، ويأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بها ، وأنه كاد
يبطئ بها ، فقال عيسى : إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بنى إسرائيل أن
يعملوا بها ، فإما أن تأمرهم ، وإما أن آمرهم" .
فقال يحيى : "أخشى إن سبقتنى بها أن يخسف بى وأُعذب" .
فجمع الناس فى بيت المقدس ، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف ، فقال
: إن الله أمرنى بخنس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن : أولهن : أن
تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من
خالص ماله بذهب أو ورق فقال : هذه دارى ، وهذا عملى ، فاعمل وأد إلى فكان يعمل
ويؤدى إلى غير سيده ، فأيكم يرضى أن يكون عبد كذلك ؟
وإن الله أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب
وجهه لوجه عبده فى صلاته ما لم يلتفت .
وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل فى عصابة معه صره فيها مسك
، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها ، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
وآمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فأوثقوا يده
إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه فقال : أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه
منهم .
وآمركم أن تذكروا الله ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو فى إثره سراعاً
حتى إذا أتى على حصن فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر
الله -قال النبى صلى الله عليه وسلم- : وأنا آمركم بخمس الله أمرنى بهن : السمع
والطاعة ، والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة
الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جيثاء جهنم"
فقال رجل : يا رسول الله ! وإن صلى وصام ، قال : "وإن صلى وصام فادعوا بدعوى
الله الذى سماكم المسلمين ، المؤمنين عباد الله" .
قال الترمذى : هذا حديث حسن غريب صحيح .
وقال البخارى : الحارث الأشعرى له صحبة ، وله غير هذا الحديث .
فقال أخبر النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث أن العبد لا
يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذى دلت عليه سورة : ] قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [ فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس ، والخناس : هو
الذى إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب
وألقى إليه الوساوس التى هى مبادئ الشر كله .
فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل .
التاسع : الوضوء والصلاة :
وهذا من أعظم ما يحترز به منه ولاسيما عند توارد قوة الغضب والشهوة
فإنها نار تغلى فى قلب ابن آدم .
كما فى الترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبى صلى
الله عليه وسلم أنه قال : "ألا وإن الغضب جمرة فى قلب ابن آدم ، أما رأيتم
حرمة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن أحسَّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض" .
وفى أثر آخر : "إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار
بالماء" فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة ، فإنها نار
والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك
كله .
وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه .
العاشر : إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس :
فأن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب
.
فضول النظر :
فإن فضول النظر يدعو للاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه فى القلب
والاشتغال به والفكرة فى الظفر به ، فمبدأ الفتنة من فضول النظر فالحوادث العظام
إنما هى كلها من فضول النظر ، فكم نظرة أعقبة حسرات لا حسرة ، كما قال الشاعر :
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من نستصغر الشرر
فضول الكلام :
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل
للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها ، وكم من حرب جرتها كلمة
واحدة .
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ : "وهل يكب الناس على
مناخيرهم فى النار إلا حصائد ألسنتهم" .
وفى الترمذى : أن رجلاً من الأنصار توفى ، فقال بعض الصحابة : طوبى
له ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : "فما يدريك ؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه
أو بخل بما لا ينقصه" .
وأكثر المعاصى إنما يولدها فضول الكلام والنظر ، وهما أوسع مداخل
الشيطان فإن جارحتيهما لا يملان ويسأمان ، بخلاف شهوة البطن ، فإنه إذا امتلأ لم
يبق فيه إرادة للطعام ، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام
فجنايتهما متسعة الأطراف ، كثيرة الشعب ، عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول
النظر كما يحذرون من فضول الكلام "و" كانوا يقولون "ما شيء أحوج
إلى السجن من اللسان" .
فضول الطعام :
وأما فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يزك
"يزج" الجوارح إلى المعاصى ، ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً فكم
من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها ؟ فمن وقى شر بطنه فقد
وقى شراً عظيماً ، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام
ولهذا جاء فى بعض الآثار "ضيقوا مجارى الشيطان بالصوم" .
وقال النبى صلى الله عليه وسلم : "ما ملأ آدمى وعاء شراً من
بطن" .
ولو لم يكن فى الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر
الله عز وجل ، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ، ووعده ومناه
وشهاه وهام به فى كل وادٍ فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات
، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت .
فضول المخالطة :
وأما فضول المخالطة فهى الداء العضال الجالب لكل شر ، وكم سلبي
المخالطة والمعاشرة من نعمة ! وكم زرعت ، وكم غرست فى القلب من حزازات تزول الجبال
الراسيات ، وهى فى القلوب لا تزول ! ففى فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة وإنما
ينبغى للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام
متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر .
أحدهما : من مخالطته كالغذاء :
لا يستغنى عنه فى اليوم والليلة ، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ،
ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر
"وهم العلماء" بالله وأمره ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها ،
الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كل الربح .
القسم الثانى : من مخالطته كالدواء :
يحتاج إليه عند المرض فمادمت صحيحاً فلا حاجة لك فى خلطته ، وهم من
لا يستغنى عن مخالطتهم فى مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع
المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قضيت حاجتك من
مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم .
القسم الثالث : وهم مخالطته كالداء :
على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه ، فمنهم من مخالطته كالداء
العضال والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه فى دين ولا دنيا ، ومع ذلك فلابد أن
تخسر عليه فى الدين والدنيا أو أحدهما ، فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت فهى
مرض الموت المخوف .
ويذكر عن الشافعى رحمه الله أنه قال : "ما جلس إلى جانبى ثقيل
إلا وجدت الجانب الذى هو فيه أنزل من الجانب الآخر" .
ورأيت يوماً عند شيخنا -قدس الله روحه- رجلاً من هذا الضرب والشيخ
يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله ، فالتفت إلىَّ وقال : "مجالسة الثقيل حمىَّ
الربع ، ثم قال : لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى ، فصارت لها عادة" أو كما
قال .
القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله :
ومخالطته بمنزلة أكل السم ، فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله
إليه العزاء ، وما أكثر هذا الضرب فى الناس ، لا كثرهم الله ! وهم أهل البدع
والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها ،
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ،
والمعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وإن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب
الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا :
أهدرت الأئمة المتبوعين .
فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم ، وأن لا
تشتغل باعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالى بذمهم ولا بغضبهم فإنه عين كما لك :
إذا أتتك مذمتى من ناقص فهى الشهادة لى بأنى عاقل فاضل
وقال آخر :
وقد زادنى حباً لنفسى أننى بغيض إلى كل امرئٍ غير طائل
دعاء محمد بن واسع رحمه الله :
كان محمد بن واسع رحمه الله يقول كل يوم بعد صلاة الصبح :
"اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوبنا ، يرانا هو وقبيله من حيث لا
نراهم ، اللهم أيسه منا كما أيسته من رحمتك ، وقنطه منا كما قنطته من عفومك ، وبعد
بيننا وبينه كما بعدت بينه وبين رحمتك إنك على كل شيء قدير" .
قال : فوقف له إبليس يوماً فى طريق المسجد ، فقال له يا بن واسع :
هل تعرفنى ؟ قال : ومن أنت ؟ قال : إبليس ، فقال : وما تريد ؟ قال أريد أن لا تعلم
أحداً هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك ، قال : والله لا أمنعها ممن أراد فاصنع ما
شئت" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق