الخميس، 12 أبريل 2012

أحكام الوضوء وفضائله


أيُّها الأخ الحبيب: دين الإسلام دين نظافة وطهارة، وملَّة تهذيب ونزاهة، طهَّر الله به القلوب والأبدان، وهذَّب به السلوك والأخلاق، فكما اعتنى الإسلامُ بتطْهير الباطن من الشِّرْك والمعاصي، اعتنى بتطْهير الظَّاهر من الحدَث والنَّجاسة؛ وذلك لأنَّ طهارةَ الظَّاهر دليلٌ وعُنوانٌ على طهارة الباطن.
أخي الغالي : إنَّ ممَّا أوْجب الله علينا في كتابه وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عبادةً ذات أثر على القلْب والبدن، رتَّب الله عليْها الثَّواب الجزيل والأجْر العظيم، تلْكُمُ العبادة هي عبادة الطَّهارة من المعاصي وسيئ الأخلاق، والطَّهارة من الأحداث والأدْران، فهي عبادة ذات شقَّين :-
1-    طهارة معنوية
وعليها المعوَّل؛ أن يطهِّر الإنسان قلبَه ونفسَه من الشِّرْك والذُّنوب والعِصْيان، وهذه الطَّهارة هي الَّتي أرسل الله جَميع الرُّسل لأجلها؛ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36]،
2-    أمَّا الطَّهارة الأُخْرى فهي رفْع الحدث وإزالة الخبث.
أيُّها القارئ الكريم : إنَّ مِن أوائِل ما أنزل اللهُ على رسولِنا من التَّشْريعات قوله - سبحانه -: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر: 4]، والمقصود من الطَّهارة هنا كما ذكَر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ثلاثة أنواع: الطَّهارة من الكُفْر والفسوق، والطَّهارة من الحدث، والطَّهارة من النَّجاسات كلِّها.
ولقد جاءتِ الطَّهارة في النِّداءات الأولى لهذه الشَّريعة؛ لتُبيِّنَ أهميةَ الطهارة في الإسلام، وعظم منزلتِها، وقد جاء النَّصُّ في القُرآن الكريم بمحبَّة الله - سبحانه - للمتطهِّرين: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ)[التوبة: 108]، قال ابن سعد - رحمه الله -: "يتطهروا من الذنوب، ويتطهَّروا من الأوساخ، والنجاسات، والأحداث". ا. هـ.
إنَّ الوضوء للصَّلاة من أعظم الطَّهارات التي رتَّب الله عليْها الأجْر العظيم، فهو سبب لِمَحْو الخطايا ورفْع الدرجات؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضَّأ المؤمِن فغسل وجهَه، خرج من وجهِه كلُّ خطيئةٍ نظَر إليْها بعينيْه مع الماء أو مع آخِر قطْر الماء، فإذا غسل يديْه خرج من يديْه كلُّ خطيئة بطشتْها يداه مع الماء أو مع آخِر قطْر الماء، فإذا غسَل رجليْه خرجتْ كلُّ خطيئةٍ بطشتْها رِجْلاه مع الماء أو مع آخِر قطْر الماء، حتَّى يخرج نقيًّا من الذُّنوب))؛ [أخْرجه مسلم].
والوضوء هو السِّمة الَّتي تتميَّز بها أمَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأُمم يوم القيامة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أمَّتي يُدْعَون يوم القيامة غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء))؛ [أخرجه الشَّيخان].
ولقد جعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المحافظة على الوضوء دليلاً على الإيمان، وكفى بِهذه الرتبة فخرًا وشرفًا؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا، ونِعِمَّا إنِ استقمتُم، وخيرُ أعمالكم الصلاة، ولن يُحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن)) [أخرجه الإمام أحمد، وصحَّحه الألباني].
أخي الحبيب : صفةُ الوضوء الوارِد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يرْويها لنا أميرُ المؤمنين عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - حيث دعا بوضوءٍ فتوضَّأ، فغسل كفَّيه ثلاثَ مرَّات، ثمَّ مضمض واستنثر، ثم غسلَ وجهه ثلاث مرَّات، ثمَّ غسل يدَه اليمنى إلى المرْفق ثلاث مرَّات، ثمَّ غسل يدَه اليُسْرى مثل ذلك، ثمَّ مسح رأْسَه، ثمَّ غسَل رِجْلَه اليُمْنى إلى الكعبَين ثلاثَ مرَّات، ثمَّ غسل اليُسْرى مثل ذلك، ثمَّ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ نحو وضوئي هذا، ثمَّ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن توضَّأ نحوَ وضوئي هذا، ثمَّ قام إلى ركعتَين لا يُحدِّث فيهما نفسَه، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ [أخرجه الشيخان].
قال ابن شهاب الزُّهري - رحمه الله -: "وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضَّأ به أحدٌ للصلاة".
أخي : الوضوء للصلاة فرَضَه الله على هيْئة يسيرة يطهِّر به المرْء المسلم أربعةَ مواضع من أعضائِه فقط، وهي: الوجْه واليدان والرأس والرجلان، ففي الوجْه النَّظر والشَّمُّ والكلام، وفي الرَّأس السَّمع والفكْر، وفي اليديْن البطش، وفي الرِّجْلين الخُطا، ولمَّا كان عمَل المرْء في هذه الحياة لا يكاد يَخرج عن عضْوٍ منْ هذه الأعضاء ، والمرْء بطبعه خطَّاء ، شرَع الله للمسلِم الوضوء؛ ليعينَه على تطْهير أدْرانِه، وتكْفير ذنوبِه الَّتي اقترفها بتِلك الجوارح.
وإذا توضَّأ المؤمن، فقد أدَّى طهارة بدنه، فيقول كلِمة التوحيد؛ تأكيدًا على طهارة قلبِه من الشِّرك، ويسأل الله أن يديمَه على هذا التَّطهير؛ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن توضَّأ فأحسن الوضوء، ثمَّ قال: أشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، اللَّهُمَّ اجعلْني من التَّوَّابين، واجْعلني من المتطهِّرين، فُتِحتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية يدخُل من أيِّها شاء))؛ [أخرجه الإمام مسلم دون زيادة ((اجعلني من التَّوابين))، فهي عند الترمذي].
عباد الله، ها هنا بعْض المسائل المتعلِّقة بالوضوء أورِدُها على سبيل الإجْمال، تيسيراً ووصولاً للمقصد ومنها:
  • من نسِيَ التَّسمِية، فوضوءُه صحيح، فإن ذكرَها في أثناء الوضوء سمَّى، وليْس عليْه أن يُعيد الوضوء.
  • ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه توضَّأ مرَّةً مرَّة، ومرَّتين مرَّتين، وثلاثًا ثلاثًا، وثبت عنه أيضًا أنَّه خالف بين أعضائه في عدد الغسلات، فغسل وجهه ثلاثًا، ويديْه مرَّتين، ورجليْه مرَّة، وكلُّ هذا ثابتٌ في سنَّته - صلى الله عليه وسلم - والأفضل أن يأتي العبد بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ حتَّى يدرك سنَّته كلَّها.
  • من عليْه أسنانٌ صناعيَّة أو مركَّبة، لا يَجب عليه أن يُزيلَها عند الوضوء؛ لأنَّها مثل الخاتم لا يجب نزعه، والأفضل أن يحرِّكه؛ ليصل الماء إلى ما تحته.
  • الأفضل في الأذُنَين أن تُمْسَحا ببقيَّة البَلَل الَّذي بقِي بعد مسْح الرَّأْس، فلا يلزم أخْذُ ماءٍ جديد لهما.
  • يجب على المرأة أن تزيل طلاء الأظْفار - المناكير - قبل الوضوء؛ لأنَّ لها جرمًا يَمنع وصولَ الماء، أمَّا الحنَّاء فلا يؤثِّر على الغسْل ولا على الوضوء؛ لأنَّه لا يَمنع من وصول الماء إلى البشرة.
  • مسح الرَّقبة في الوضوء غيرُ مشروع؛ لأنَّه لم يثبُت في كتاب الله - تعالى - ولا في سنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مسح الرَّقبة من سُنَن الوضوء.
  • لا بأْس بتنْشيف الأعْضاء بعد الوضوء؛ لأنَّ الأصل عدم المنْع.
  • إذا صلَّى العبد بوضوئه استحبَّ له أن يُجدِّد وضوءه للصَّلاة الأخرى، أمَّا إذا لم يصلِّ بوضوئه فلا يجدد؛ قال تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "وإنَّما تكلَّم الفقهاء فيمن صلَّى بالوضوء الأوَّل هل يستحب له التَّجديد؟ أمَّا مَن لم يصلِّ، فلا يستحبُّ له إعادة الوضوء، بل تَجْديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -". ا. هـ.
  • اللَّهُمَّ علِّمْنا ما ينفعُنا، وانفعْنا بما علَّمتَنا، وزِدْنا علمًا وعملاً يا حيُّ يا قيُّوم.
أيها الأخ الفاضل: مع شرف الوضوء في الإسلام ومكانته ومع يُسْرِه وسهولته، فإنَّ الناسَ فيه طرفان ووسط، طرف فرَّطوا في الوضوء، لا يُقيمون له وزنًا، ولا لأحكامه قدرًا، إمَّا تهاونًا بشأنه، وإمَّا جهلاً بصفَتِه الشَّرعيَّة، ونسي أولئِك أنَّ الأجر العظيم في الوضوء إنَّما رتب على إسباغه وتمامه وإحسانه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من مسلمٍ يتوضَّأ فيُحسِن وضوءَه ثمَّ يقومُ يصلِّي ركعَتَين يُقْبل عليْهِما بقلْبِه ووجْهِه، إلاَّ وجبتْ له الجنَّة))؛ [أخرجه مسلم]، وفي حديث آخَر قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أتمَّ الوضوء كما أمره الله، فالصَّلوات المكتوبات كفَّارات لما بينهنَّ))؛ [أخرجه الإمام مسلم].
أمَّا الطَّرف الثَّاني من النَّاس، فقد أفرطوا في الوضوء، يتوضَّأ أحدُهم للصلاة الواحدة عشرات المرَّات، ويَمكث في دورات المياه لإتمام وضوئِه الساعات، تفوتهُ الجمعُ والجماعات وهو معذَّب باستعمال الماء، ووسوسة الشَّيطان، ولمثل هؤلاء يقال: دلَّت السُّنن الصَّحيحة على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه لم يكونوا يُكْثِرون صبَّ الماء في الوضوء، ومضى على هذا التَّابعون لهم بإحسان؛ جاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ ثلاثًا ثمَّ قال: ((هذا الوضوء، فمَن زاد على هذا، فقد أساء وظلَم))، وقال الإمام ابنُ المبارك - رحمه الله -: "لا آمَنُ على مَن زاد على الثَّلاث أن يأثم"، ويقول الحسن البصري - رحمه الله -: "إنَّ شيطانًا يضحك بالنَّاس في الوضوء يقال له: الولهان".
اللهُمَّ إنَّا نعوذ بك من همزات الشَّياطين، ونعوذ بك ربَّنا أن يَحضُرون.
اللَّهُمَّ أعنَّا على ذِكْرك وشكرك وحسن عبادتك.
وصلي اللهم وسلم وبارك علي سيدنا ومولانا محمد وعلي آله وصحبه  والتابعين.
وكتبه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
باحث شرعي في علوم الحديث  
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق