الثلاثاء، 10 أبريل 2012

بحث حديثي حول الأدعية المروية في سجود التلاوة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد... فلقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم دُعاءَان يُدْعَى بهما في سجودِ التلاوة، فأحببتُ في هذا البحث جَمْعَ طرقَ هذين الدعاء ودراستها.


الصيغة الأولى
وهي قولُ: "سجدَ وجهيَ للذي خلقَه؛ وشقَّ سمْعَه وبصَرَه بحولهِ وقوتهِ".
جاءت هذه الصيغة من حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث عطاء بن السائب عن قيس بن السكن.
فأما حديث عائشة فمدارُه على (خالد الحذاء) وقد اختلف عليه على وجهين:
الوجه الأول :  رُوي عن خالد الحذاء عن أبي العالية -رُفيع بن مهران- عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل: "سجدَ وجهيَ للذي خلقَه، وشَقَّ سمعَه وبصرَه، بحوله وقوَّتِه".
وهذا الوجه أخرجه النسائي في سننه الصغير (1129) والكبير (714) وَالترمذي في جامعه (580، 342)  -ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3 / 313)- وابن خزيمة في صحيحه (564) ، والحاكم في المستدرك (1/ 220) -وعنه البيهقي في سننه الكبير (2/325)- وإسحاق في مسنده (1679) والبيهقي في الدعوات (388) من طريق عبد الوهاب الثقفي.
وهذا لفظ النسائي، وزاد الحاكم والبيهقي في سننه الكبير: "فتبارك الله أحسن الخالقين".
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (564) والحاكم في المستدرك (1/220) من طريق خالد بن عبد الله الطحان.
والحاكم في المستدرك (1/220) والطبراني في الأوسط (3476) وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 512) من طريق وُهيب بن خالد.
وأحمد في المسند(24022) وابن أبي شيبة في المصنف (2/20) وابن المنذر في الأوسط (5/ 272) من طريق هشيم بن بشير.
والدارقطني في سننه (1/ 406) من طريق سفيان بن حبيب.
خمستهم (عبد الوهاب وخالد ووهيب وهشيم وسفيان) عن خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها.

الوجه الثاني : رُوي عن خالد الحذاء عن رجل عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا الوجه أخرجه أبوداود في سننه (1414) -ومن طريقه البيهقي في سننه الكبير (2/325)- والإمام أحمد في المسند (25821) والبيهقي في الدعوات (389) وابن خزيمة في صحيحه (565) وابن أبي شيبة في المصنف (2/20) والبيهقي في السنن الصغير (907) وفي الأسماء والصفات(1/215) من طرقٍ عن إسماعيل بن عُلية عن خالد الحذاء عن رجلٍ عن أبي العالية عن عائشة رضي الله عنها، بمثله.
وقد صحح الترمذيُّ والحاكم هذا الحديث بالوجه الأول، بينما أعلَّه ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني في العلل (5/96/مخطوط) حيث رجَّحا الوجه الثاني؛ وهو روايةُ إسماعيل بن عُلية عن خالد الحذاء عن رجل.
ولعلَّ سببَ ترجيحهم روايةَ إسماعيل على رواية الآخرين –مع أنَّ الذين خالفوه خمسةٌ، بعضهم ثقةٌ ثبت-هو أنَّ خالداً الحذاء لم يسمع من أبي العالية الرياحي، كما قال الإمام أحمد ( التهذيب 3/ 122).
وعبارةُ الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود (صـ446) والعلل لعبد الله بن أحمد (1/253) :- [ما أُرَى خالداً الحذاء سمع من أبي العالية شيئاً].
فقرينةُ عدم سماع خالدٍ من أبي العالية تُقَوِّي احتمالَ الواسطة بينهما.
وعلى كلِّ حالٍ، فالحديث ضعيفٌ من الوجهين:
1-          فهو ضعيفٌ للانقطاع في رواية (خالد الحذاء عن أبي العالية).
2-          وضعيفٌ للإبهام في رواية (خالدٍ عن رجل عن أبي العالية) والله أعلم.
يُضاف إلى ذلك احتمال عدم سماع أبي العالية من عائشة رضي الله عنها، والذي جعلني أشير إلى ذلك أنَّ الحافظَ ابنَ حجر رحمه الله قال في مسند عائشة من (إتحاف المهرة 16/1077) : "رُفيع أبو العالية عنها، ولم يسمع منها".
بينما أثبتَ سماعَه منها الذهبي رحمه الله، كما في تذكرة الحفاظ (1/61).
ولم أجدْ من المتقدمين مَنْ أثبتَ السماعَ أو نفاه، إلا أنَّ احتمالَ السماع وارد.
وأما حديث عطاء بن السائب، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (2/20) عن محمد بن فُضيل عن عطاء بن السائب قال : دخلتُ المسجدَ فإذا أنا بشيخين يقرأُ أحدهما على صاحبه القرآن، فجلستُ إليهما فإذا أحدهما قيس بن سكن الأسدي، والآخر يقرأ عليه سورةَ مريم فلما بلغ السجدةَ قال له قيس: دَعْها فإنا نكره أن يَرَونا أهلُ المسجد، فتركَها وقرأَ ما بعدها ثم قال قيس: والله ما صرَفَنَا عنها إلا الشيطان، اقرأْهـا، فقرأهـا فسجدنا، فلما رفعنا رؤوسَنا، قال له قيس: تدري ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذاسجد؟ قال: نعم، كان يقول: "سَجَدَ وجهيَ لمن خلقه، وشقَّ سمعه وبصره". قال: صدقتَ، وبلغني أنَّ داود كان يقول: سجد وجهي متعفِّراً في التراب لخالقي، وحُقَّ له ، ثم قال: سبحان الله، ما أشبهَ كلامَ الأنبياء بعضهم بعضاً.
وهذا الإسناد ظاهرُ الضعف، فـإنَّ محمدَ بن فُضيل ممن سمع من عطاء بعد اختلاطه كما قال أبو حاتم، بالإضافة إلى إرسال قيس بن السكن للحديث، وجهالة الرجل الآخر. ولذلك لا أرى صحة جعله شاهداً لحديث عائشة رضي الله عنها.

الصيغة الثانية
قول : "اللهمَّ اكتُبْ لي بها عندك أجراً، وضَعْ عني بها وِزْرا، واجعلها لي عندك ذُخراً، وتَقبَّلْها مني كما تقَبَّلتَها من عبدِك داود".
جاءت هذه الصيغة من حديث ابن عباسٍ وأبي سعيدٍ الخُدري وأبي موسى الأشعري وبكر بن عبد الله المزني مرسلاً.
فأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي في جامعه (579، 3424) -ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3/313)- وابن ماجه في سننه (1053 ) وابن خزيمة في صحيحه (562، 563) -ومن طريقه ابن حبان في صحيحه (2768)- والحاكم في المستدرك (1/ 219- ) والبيهقي في سننه الكبير (2/320) وفي الدلائل (7/20) والدعوات (390، 391 ) والطبراني في الكبير (11/129 "11262") والخليلي في الإرشاد(1/353) والعقيلي في الضعفاء (1/243) وأبو أحمد الحاكم في شعار أصحاب الحديث (84) -ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال (6/314) وعنه ابن كثير فيتفسير سورة ص (7/60)
من طريق محمد بن يزيد بن خُنَيس عن حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد -جد حسن بن محمد- عن ابن عباس رضي الله عنه قـال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيتُني الليلةَ وأنا نائمٌ كأني أُصلي خلفَ شجرةٍ فسجدتُ فسَجَدَت الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقول: اللهمَّ اكتبْ ليبها عندك أجراً، وضَعْ عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبَّلها مني كماتقبلتَها من عبدك داود.
قال الحسن: قال لي ابن جريج قال لي جدُّك: قـال ابن عباس فقرأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سجدةً ثم سجد، قال: فقال ابن عباس:فسمعته وهو يقول مثلَ ما أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة.
هـذا لفظُ الترمذي، وزاد الحاكم والبيهقي في سننه الكبير والدعوات قصةً في آخره.
ومدارُ الحديث على محمد بن يزيد بن خُنيس، وقد روى عنه أبو حاتم الرازي ووثقه، كما في الجرح والتعديل (8/127).كما وثقه العجلي (الثقات صـ416) وابن حبان، وقال: (كان من خيار الناس، ربما أخطأ، يجب أن يُعتبرَ حديثه إذا بيَّن السماعَ في خبره، ولم يرو عنه إلا ثقة). وقال الذهبي: (هو وسط) الميزان (4/ 68) وقال ابن حجر: (مقبول).
وأما شيخه في الإسناد، وهو حسن بن محمد فلـم يرو عنه غيرُ ابن خُنيس، وذكره ابن حبان في الثقات ووثقه الخليلي، وصحح حديثَه هذا ابنُ خزيمة والحاكم وابنُ السكن -التلخيص الحبير (2/10).
وقـال الخليلي: (هذا غريبٌ صحيح من حديث ابن جريج، قصدَ أحمدُ ابنُ حنبل إلى محمد بن يزيد وسأله عنه، ويتفرد به الحسن بن محمد المكي عن ابن جريج، وهو ثقةٌ).
واستغرب الترمذيُّ حديثَ الحسن بن محمد، فقال: (هذا حديث غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه).
وقال العقيلي: ( لا يُتَابَعُ على حديثه، ولا يُعرَف إلا به، وليس بمشهورٍ بالنقل) وساق حديثه هذا، ثم قال: (لهذا الحديث طرقٌ فيها لين).
وقال الذهبي في المغني: (غيرُ معروف) وقال في الكاشف: (غيرُ حجة) وقال الحافظ في التقريب: ( مقبول).
وممن قوَّى هذا الحديث النووي،حيث قال : (إسناده حسن) المجموع (4/74) وقال الحافظ في النتائج (2/113): (هذا حديث حسن) وفي (2/115) أوردَ كلامَ العقيلي في حسن ابن محمد ولم يتعقبَّه.
والذي يبدو أنَّ هذا الحديثَ لا يصح، فإن حسنَ بن محمد فيه جهالة، وقد تفرَّد به عن ابن جريج، وتفرُّد مثله عن ابن جريج غيرُ مقبول.
وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقد رواه أبويعـلى في مسنده (1069) والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 147) ولم يَسُقْ لفظَه، والطبراني في الأوسط (4768) ومن طريقه الحافظ في نتائج الأفكار (2/115) من طريق يمـان بن نصر عن عبد الله بن سعد المزني عن محمد بن المنكدر عن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : رأيتُ فيما يرى النائمُ، كأني تحتَ شجرةٍ، وكأنَّ الشجرةَ تقرأُ فلما أتَتْ على السجدةِ سجَدَتْ فقالت في سجودها: اللهم اغفر لي بها، اللهم حُطَّ عني بها وزراً وأَحْدِثْ لي بهـا شكراً، وتقبَّلها مني كما تقبلتَ من عبدك داود سَجْدتَه. فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه فقال : "سجدتَ أنتَ يا أبا سعيد؟".قلت: لا، قال : "فأنتَ أحقُّ بالسجود من الشجرة" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ثم أتى على السجدة، وقال في سجوده ما قالت الشجرة في سجودها.
قال الطبراني: (لا يُروى هذا الحديثُ عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به اليمان بن نصر).
و"يمان بن نصر" مجهول.
و"محمد بن عبد الرحمن بن عوف" ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وابنُ فتحون في الصحابة، وقال: (ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أكبر ولد عبدالرحمن، وبه يكنى، وهو قليل الرواية).
وأما "عبد الله بن سعد المزني"، فقد قال ابن حجر: (ما عرفته) [ينظر: نتائج الأفكار (2/ 116) والإصابة (9/313)].
وهذا الإسناد ضعيفٌ جداً، حيث تفرَّد به يمان بن نصر عن عبد الله بن سعد عن ابن المنكدر.
وأمـا حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فرواه ابن السُّنِّي في عمل اليوم والليلة (775) عن عمر بن سهل عن زكريا بن يحيى بن مروان الناقد عن خليل بن عمرو عن محمد بن سلمة عن الفَزَاري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: رأيتُ في المنام كأني جالسٌ في ظـلِّ شجرةٍ، ومعي دَواةٌ وقرطاس، وأنا أكتب من أول حتى بلغتُ السجدةَ، فَسَجَدَت الدواةُ والقرطاس والشجرة، وسمعتُهنَّ يَقُلْـنَ في سجودهن: "اللهم احْطُطْ بها وزراً، وأَحْرِزْ بها شكراً، وأَعْظِمْ بها أجراً". وعُدْنَ كما كُنَّ، فلما استيقظتُ أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر، فقال "خيراً رأيتَ، وخيراً يكون، نمتَ ونامت عينُك، توبةُ نبيٍّ ذكرت، تَرْقُبُ عندَها مغفرةً، ونحن نرقب ما ترقب".
والفَـزَاري هو (محمد بن عبيد الله العَرزمي) كما ذكر الحافظ ابن حجر في النتائج (3/ 130) قـال: (وهو ضعيفٌ جداً، حتى قال الحاكم أبو أحمدأجمعوا على تَرْكِه).
وأما حديث بكر عبد الله المزني فقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/337) عن ابن عيينة عن عاصم ابن سليمان الأحول عن بكرٍ بن عبد الله المزني أنَّ رجلاً أتى النـبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: رأيتُ كأنَّ رجلاً يكتب القرآنَ، وشجرةٌ حذاءَه، فلما مَرَّ بموضع السجدة التي في سجَدَتْ، وقالت: "اللهم أَحْدِثْ لي بها شكراً، وأَعْظِمْ لي بها أجراً، واحططْ بها وزراً". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحقُّ من الشجرة".
واختُلف في هذا الحديث على بكر بن عبد الله على أوجهٍٍ، ذكرَها الدارقطني في العلل (11/304) ورجَّحَ طريقَ مسدد عن هشيم بن بشير عن حميد الطويل عن بكر بن عبدالله عن رجل عن أبي سعيد.
وهذه الطريق رواها البيهقي في سننه الكبير (2/320) وغيرُه.
وبغضِّ النظر عن الراجح من تلك الأوجه، فقـد راجعتُ ما وقفتُ عليه من ألفاظها، فلم أجدْ في أيٍ منها ذكراً للدعاء، إلا في مرسل بكر المزني.
وبناءً على ذلك، يتبيَّن أنَّ أقوى ما وردت به الصيغة الثانية حديثُ ابن عباسٍ رضي الله عنه – على ما فيه من الضعف الذي سبق بيانه – وأما بقية الشواهد ؛ فلا تصلح للاستشهاد، وذلك لما يلي :-
أما حديثا أبي سعيدٍ وأبي موسى فضعيفان جداً.
وأما مرسل بكرٍ المزني فقد اختُلف فيه، ولم تُذكر هذه الصيغة فيما وقفتُ عليه من أوجه الاختلاف التي أشار إليها الدارقطني سوى طريق بكرٍ المرسلة، على أنه رحمه الله قد صوَّب طريق بكر بن عبد الله المزني عن رجلٍ عن أبي سعيدٍ، وهذه الطريق مع ضعفها؛ لم يُذكر فيها الدعاء.
ومن خلال العرض السابق، يتبيَّن لي أنه لا يثَبت دعاءٌ مخصوصٌ لسجود التلاوة، وإنما يدعو المسلمُ فيه بما يدعو به في سجود الصلاة.
قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عما يقول الرجل في سجود القرآن؟
قال: أما أنا فأقول: (سبحان ربي الأعلى). [ينظر : مسائل أبي داود (صـ93)].
وقال ابن هانئ: صلَّيتُ إلى جَنبِ أبي عبد الله، فقرأَ الإمام (ألم، تنزيل السجدة) فبلغ إلى السجدة، فسجد. وسمعته يقول: سبحان ربي الأعلى، كما يقول في سائر السجود. [ينظر : مسائل ابن هانئ (صـ98)].
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


وكتبه راجي عفو مولاه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين أجمعين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق