عن أنسِ بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن نسِيَ صلاةً، فلْيُصلِّها إذا ذكرَها، لا كَفَّارة لها إلا ذلك))[1]، وفي رِواية لمسلم: ((إذا رقَد أحدُكم عن الصلاةِ أو غفَل عنها، فلْيُصلِّها إذا ذكَرَها؛ فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]))[2].
دلَّتْ هذه الأحاديثُ وغيرها على وجوبِ أداء الصلاةِ إذا فاتتْ بنومٍ أو نِسيان، وأنه يجب ذلك على الفَور، وسواء أكان ذلك في وقتِ نهْي أو غيره، وأنَّه إذا أدَّاها مباشرةً وقعَتْ أداءً لا قضاءً، ولا إثمَ عليه؛ لأنَّه غير مفرِّط.
تنبيهات:
1- اعلم أنه ((ليس في النَّومِ تَفْريط))، لكنَّه إنْ تعمَّد النوم متسببًا به لترْك الصلاة أو تأخيرها، فلا شكَّ في عِصيانه، وكذلك مَن نام بعدَ أنْ ضاق الوقتُ لأداء الصلاة.
2- يَنبغي للمكلّف أن يُراعي الأسبابَ التي تُعينه على اليَقظة للصلاة؛ فعن أبي هُرَيرَة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قَفَل مِن غزوةِ خَيْبر سارَ ليلة، حتى إذا أدركه الكَرَى عرَّس، وقال لبلال: ((اكْلأْ لنا الليل))، فصلَّى بلالٌ ما قُدِّر له، ونام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابُه، فلمَّا تقارَب الفجر استندَ بلالٌ إلى راحلته مواجِه الفجْر، فغلبتْ بلالاً عيناه وهو مستندٌ إلى راحلته، فلم يستيقظْ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا بلالٌ ولا أحدٌ مِن أصحابه حتى ضربتْهم الشمس، فكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوَّلَهم استيقاظًا، ففَزِع رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أيْ بلال!))، فقال بلال: أخَذ بنفْسي الذي أخذ - بأبي وأنت وأمِّي يا رسولَ الله - بنفْسِك، وقال: ((اقتادوا))، فاقتادوا رواحلَهم شيئًا، ثم توضَّأ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأَمَر بلالاً فأقام الصلاة، فصلَّى بهم الصبح، فلمَّا قضَى الصلاة، قال: ((مَن نَسِي الصلاة، فلْيُصلِّها إذا ذَكَرها، فإنَّ الله قال: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]))[3].
ومعنى ((الكَرَى)) النُّعاس، و((التَّعْريس)): نُزول المسافرين آخِرَ الليل للنومِ والاستراحة، ومعنى ((اكْلأْ)): احفظْ واحْرُس.
نرى في هذا الحديث أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَر بلالاً أن يكلأَ الليل - أي: يحرُس الليل - ليوقظَهم للصلاة، فأين هذا ممَّن يَسْمُر ليلَه فيما لا فائدةَ فيه، ولم يحتطْ لنفسه بمَن يُوقِظه؟!
3- مَن فاتتْه الصلاةُ لنوم أو نِسيان فقام لأدائِها، فإنَّه يُشرَع له أن يؤذِّن للصلاة، ويُصلِّي السنن الراتِبة كما يُصلِّيها للوقت، ويُقيم الصلاة.
4- إذا فاتتْه أكثرُ مِن صلاة لنوم أو نسيان، فإنَّه يقضيها مرتَّبة كما يُصلِّيها للوقت، ويُقيم لكلِّ صلاة، وإن كانوا جماعةً صلَّوْها جماعة، وما كان مِن الصلاة الجهرية صلاَّها جهريةً، حتى لو كان في وقتِ السِّريَّة، وكذلك السرية يُسِرُّ بها حتى لو كان في وقت الجهرية، ففي بعضِ ألفاظ حديث أبي هُرَيرَة المتقدِّم: ((فصَنَع كما يَصْنَع كلَّ يوم)).
وعن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه - قال: "حُبِسْنا يوم الخندق عنِ الصلاة حتى كان بعدَ المغرِب بهوي مِن الليل كُفِينا عن القِتال، وذلك قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25]، قال: فدَعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بلالاً فأقام الظهر، فصلاَّها فأحْسَن صلاتَها كما كان يُصلِّيها في وقتها، ثم أمرَه فأقام العصرَ، فصلاَّها فأحسن صلاتَها كما كان يُصلِّيها في وقتها، ثم أمرَه فأقام المغربَ، فصلاَّها كذلك، قال: وذلك قبل أن يُنزِل اللهُ - عزَّ وجلَّ - في صلاةِ الخوف: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ﴾ [البقرة: 239]"[4].
5- فإذا فاتتْه صلاةٌ فدخَل المسجدَ فأُقيمت الصلاة الأُخرى، فإنَّه يُصلِّي مع الإمام الصلاة التي أُقيمتْ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أُقِيمتِ الصلاة فلا صَلاةَ إلا المكتوبة))[5]، وفي لفظ: ((إذا أُقيمتِ الصلاة فلا صَلاةَ إلا التي أُقِيمت))[6]، وهذا اللفظ - وإنْ كان في طريقِه مقال - إلا أنَّه المفهومُ مِن اللفظ الأوَّل، فإنَّه على عمومه: ألاَّ يُصلِّي العبد نافلةً أو فريضةً إلا التي أُقيم مِن أجلها، والله أعلم، ثم بعد ذلك يُصلِّي الفائتة، ولا يجب عليه إعادةُ الصلاة الأولى التي صلاَّها مع الإمامِ طلبًا للترتيبِ؛ إذ لا دليلَ على ذلك.
قال ابنُ تيميَّة - رحمه الله -:
"وهو قولُ ابن عبَّاس، وقول الشافعيِّ، والقول الآخَر في مذهب أحمد"، ثم صحَّح - رحمه الله - هذا القول قائلاً: "فإنَّ الله لم يُوجِبْ على العبد أن يُصلِّي الصلاةَ مرَّتين إذا اتَّقى الله ما استطاعَ"[7].
وكذلك لو تَضايق الوقتُ بحيث إنَّه لو صلَّى الفائتةَ خرَج وقتُ الحاضِرة.
فالراجِح: أنَّه يُصلِّي الحاضرةَ أولاً، وكذلك الحُكم لو خاف فواتَ صلاةِ الجُمُعة، والله أعلم[8].
وأما إنْ تذكَّر الفائتةَ أثناءَ الخُطْبة، فعليه أن يُصلِّيها، ولو أدَّى ذلك إلى عدمِ سماعِ الخُطبة، شريطةَ ألا تفوتَه صلاةُ الجُمُعة.
6- ما تقدَّم مِن هذه الأحكام والتنبيهات هي في حقِّ النائم والناسي؛ إذ لا تفريطَ عليهما، وأمَّا المتعمِّد لترْك الصلاة، فقد تنازَع العلماءُ في وجوبِ قضاء هذه الصلوات؟!
فذهب فريقٌ منهم بعدمِ القضاء، بل تلزمه التوبة، ولا تصحُّ منه الصلاة؛ لأنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]، فكما لا تصحُّ منه قبلَ الوقت، كذلك لا تصحُّ منه بعده.
قال ابن تيمية - رحمه الله -:
"وتاركُ الصلاةِ عمدًا لا يُشرَع له قضاؤُها ولا تصحُّ منه، بل يُكثِر من التطوُّع، وكذا الصوم، وليس في الأدلَّة ما يُخالِف هذا، بل يُوافِقه"[9].
واحتجَّ الآخَرون الذين أوْجَبوا القضاءَ بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فدَيْن الله أحقُّ بالقضاء))[10]، قالوا: والصلاةُ دِين لا يسقط إلاَّ بأدائه.
قال الشوكانيُّ - رحمه الله -: "إذا عرفتَ هذا، علمتَ أنَّ المقام مِن المضايق"[11].
ورجَّح الشيخ ابن عثيمين القولَ بعدم القضاء[12].
7- قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "والمسافِر العادِم للماءِ إذا عَلِم أنه يَجِد الماء بعدَ الوقت، فلا يجوز له التأخيرُ إلى ما بعدَ الوقت، بل يُصلِّي بالتيمم في الوقت بلا نِزاع، وكذلك العاجِز عن الرُّكوع والسجود والقراءة إذا عَلِم أنه يمكنه أن يُصلِّي بعد الوقت بإتمام الركوع والسجود والقراءة، كان الواجبُ أن يُصلِّي في الوقت بحسبِ إمكانه"[13].
قلت: كراكبِ الطائرة أو القِطار، لا يتمكَّن مِن صلاته قيامًا، صلَّى حسبَ حاله بالانحناء.
ومن ذلك أيضًا: مَن لم يجد إلا ثوبًا نجِسًا، صلَّى فيه ولا إعادةَ عليه، أو كان عليه نجاسةٌ لا يستطيع إزالتَها قبلَ الوقت، وكذا الحائض والجُنُب إذا لم يستطعِ الحصولَ على الماء قبْلَ خروج الوقتِ، تيمَّم وصلَّى.
لكنْ إنِ استيقظ آخِرَ الوقت - والماء موجود - وهو يعلَم أنَّه إنِ اغتسلَ طلعَتِ الشمس، فالصحيحُ أنَّه يغتسل ويُصلِّي ولو طلعتِ الشمس، وهذا مذهبُ الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله[14] - لكن يُلاحَظ أنه لا ينشغل بشيءٍ إلا بالاغتسالِ والصلاة، فإنِ انشغل بشيءٍ آخَر أثِم.
8- إنْ نسِي صلاةً ولم يعرفْ عينَها، فعلى أقوال:
الأول: عليه أن يَقضي خمسَ صلوات.
الثاني: يَقْضي صلاةً ثُنائية، وصلاةً ثُلاثيَّة، وصلاة رُباعيَّة على اعتبار أنه يَنوي فرْض الوقت، ومعلوم أنَّ الرباعية فرْض لثلاثة أوقات، فإنْ كانتِ المنسية ظُهرًا أو عصرًا أو عِشاءً، كانتْ تلك الصلاةُ الرُّباعيَّة فَرْضَها، وتكون الثنائية للصُّبح، والثلاثية للمغرِب، والله أعلم.
9- قال ابن تيمية - رحمه الله -: "إذا ذَكَر أنَّ عليه فائتةً وهو في الخُطْبة يسمع الخطيبَ أو لاَ يَسْمعه، فله أنْ يقضيَها في ذلك الوقت، إذا أمْكَنه القضاء وإدراك الجُمُعة، بل ذلك واجبٌ عليه عندَ جمهور العلماء"[15].
قلت: وأمَّا إذا تذكَّر وخشِي فواتَ صلاة الجُمُعة، فالصحيح أنَّه يبدأ بالجُمُعة، ثم الفائِتة؛ (راجع رقم: 5).
10- قال ابن تيمية - رحمه الله -: "ومَن أخَّرَها - أي: الصلاة - لصناعة، أو صَيْد، أو خِدمة أستاذ، أو غير ذلك حتى تغيبَ الشمس - يعني: صلاة النهار - وجبتْ عقوبتُه، بل يجب قتلُه عندَ جمهور العلماء بعدَ أن يُستتاب"[16].
وكتبه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
عضو الإتححاد العالمي لعلماء المسلمين
[1] البخاري (597)، ومسلم (684)، وأبو داود (442)، والترمذي (178)، والنسائي (1/ 293)، وابن ماجه (695).
[2] وهي الرواية الآتية.
[3] مسلم (680)، وأبو داود (435)، والترمذي (3163)، والنسائي (2/ 296)، وابن ماجه (697).
[4] صحيح: رواه النسائي (2/ 17)، وأحمد (3/ 49)، وابن خزيمة (1703)، واللفظ له
[5] مسلم (710)، وأبو داود (1266)، والترمذي (421)، وابن ماجه (1151)، والنسائي (2/ 116).
[6] حسن: وهو بهذا اللفظ عند أحمد (2/ 352)، والطبراني في الأوسط (8/ 286)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 372).
[7] مجموع الفتاوى (22/ 106)، وقد نقَل - رحمه الله - القولَ الآخَر أنَّه يُعيد، وعزاه لابن عمرَ - رضي الله عنهما - وهو مذهَب مالك، وأبي حَنيفة، وأحمد في المشهور عنه.
[8] انظر "الشرح الممتع" (139/ 142)، وانظر الملاحظة رقم (9).
[9] "الاختيارات الفقهية"(ص: 16)، وقد عزوتُ في الطبعة الأولى في هذا الموضِع نحوَ هذا لابن تيمية أيضًا، لكنِّي حاولتُ الرجوعَ إلى مصدره، فلم أصلْ إليه ذهولاً عنه، فحذفتُه هنا.
[10] البخاري (1953)، ومسلم (1148).
[11] نيل الأوطار (2/ 3).
[12] انظر "الشرح الممتع" (2/ 135).
[13] "الاختيارات الفقهية" (ص: 64).
[14] مختصر الفتاوى المصرية (ص43).
[15] "مجموع الفتاوى" (22/ 107).
[16] المصدر السابق (22/ 38).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق