السؤال
من المعلوم نصًّا في القُرآن الكريم: أنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، ولكِنْ ماذا عن السيِّئات؟ هل يذهبن الحسنات؟
الجواب :-
الحمد لله، والصلاة والسَّلام على رسول الله، وبعد:
فالكفْر والشِّرك والردَّة تُذْهِب جميع الحسنات؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقال الله – سبحانه -: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
أمَّا الكبائر - غير الشرك والكفْر والردَّة - فإنَّها لا تُحْبِط جميع الحسنات، ولا تمنع قبولَها، ولكن قد تُحبط بعض الحسنات بقدْرها عند وزن الأعمال، فإن رجحت حسناتُه على سيِّئاته، كان من أهْل الثواب، وإنْ رجحت سيِّئاته على حسناتِه، كان من أهل العقاب؛ كما في الحديث الذي رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد" عن عبدالله بن عمرو، عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خلَّتان لا يُحصيهِما رجل مسلم إلا دخل الجنَّة، وهما يسير، ومَن يعمل بهما قليل)) قيل: وما هما يا رسول الله؟ قال: ((يُكبِّر أحدُكم في دُبُر كلِّ صلاةٍ عشْرًا، ويحمَد عشْرًا، ويسبِّح عشْرًا، فذلك خمسون ومائة على اللِّسان، وألفٌ وخمسمائة في الميزان))، فرأيت النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعدُّهنَّ بيده، ((وإذا أوى إلى فراشِه، سبَّحه وحمده وكبَّره، فتلك مائة على اللسان وألفٌ في الميزان، فأيُّكم يعمل في اليوم والليلة ألفَيْن وخمسمائة سيِّئة؟))، قيل: يا رسول الله، كيف لا يحصيهما، قال: ((يأتي أحدَكُم الشَّيطانُ في صلاته، فيذكِّره حاجة كذا وكذا، فلا يذكره))؛ قال الألباني: صحيح.
فدلَّ هذا الحديث على أنَّ الحسنات والسيِّئات تُوزن وتَجري المقاصَّة بينهما.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن رجل مسلم يعمل عملاً يستوجِب أن يُبْنَى له قصر في الجنَّة، ويُغرس له غِراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النَّار، فإذا دخل النَّار، فكيف يكون اسمه أنَّه في الجنَّة وهو في النَّار؟
فأجاب: "وإن تاب عن ذنوبه توبة نصوحًا، فإنَّ الله يغفر له ولا يَحرمه ما كان وعَده؛ بل يعطيه ذلك، وإن لم يتُب، وُزِنَتْ حسناتُه وسيئاته، فإن رجحتْ حسناته على سيِّئاته، كان من أهل الثَّواب، وإن رجحت سيِّئاته على حسناته، كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب، يُحْبَط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناتِه، كما أنَّه إذا عمل سيئات استحقَّ بها النار، ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات، والله أعلم".
ويجب أن يُعلم: أنَّ الإصرار على المعاصي - ولاسيَّما الكبائر - سببٌ لسوء الخاتمة.
روى أحمد في مسنده عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المؤمن إذا أذنبَ، كانت نكتةٌ سوداء في قلبِه، فإن تاب ونزَع واستغفر، صُقِل قلبه، وإن زاد زادت حتَّى يعلو قلبَه ذاك الرَّين، الذي ذكر الله - عزَّ وجلَّ - في القرآن؛ {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]؛ قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.
وقال بعض السلف: المعاصي بريد الكفْر، كما أنَّ الحمَّى بريد الموت.
وفي مسند أحْمد أيضًا عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنْهما - عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال وهو على المنبر: ((ارْحموا تُرْحموا، واغفروا يَغْفِر الله لكم، ويْل لأقماع القول، ويْل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون))؛ قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
قال المناوي في فيض القدير: "أي شدَّة هلكة لِمن لا يعي أوامر الشَّرع ولم يتأدَّب بآدابه، والأقْماع - بفتح الهمزة -: جمع قِمع - بكسر القاف، وفتح الميم وتسكَّن -: الإناء الذي يُجعل في رأس الظرف ليملأ بالمائع، شبَّه استماع الذين يستمعون القول ولا يعُونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئا ممَّا يفرغ فيها، فكأنَّه يمرُّ عليْها مُجتازًا كما يمرُّ الشَّراب في القِمع، كذلك قال الزمخشري: من المجاز ويل لأقْماع القول، وهم الذين يستمعون ولا يعون". اهـ.
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق