جاءت الحضارة الإسلامية بجماليات في السلوك والأخلاق لم تُعهد في تشريع من قبلُ ولا من بعدُ، وذلك من قبيل حُسن الخُلق، ولين الجانب، وطيب الكلام؛ فكان في التبسُّم صدقةٌ! وفي أدب المعاملات أَجْرٌ! وفي كظم الغيظ والعفو عن المسيئين درجةُ الإحسان وحُبٌّ من الله.
وهذا هو روعة الجمال الأخلاقي الإنساني؛ الذي هو جمال السلوك، وجمال القول، وجمال الإنسانية في الإنسان الآخر، وجمال العَلاقات مع الآخرين.
التبسُّم.. تلك اللغة الإنسانية العالمية، وذلك النوع من أنواع الجمال الراقي، وذاك السلوك الذي يوحي بالتقبُّل، والصفاء، والانشراح، والودِّ الإنساني.
والتبسُّم كما يقول علماء اللغة: مبادئ الضَّحِك، وهو انبساط الوجه، وبُدُوُّ الأسنان من سرور النفس، ويُستعمل في السرور المجرَّد، نحو قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39]. وهو مختصٌّ بالإنسان، وليس يوجد في غيره من الحيوان[1]؛ فالتبسم من ثَمَّ جمالٌ من جمال الأخلاق والسلوك الإنساني.
تبسم رسول الله
ولقد اتَّصف رسول الله بالتبسُّم سائر يومه وسائر حياته؛ فكان أكثر الناس تبسُّمًا، وكان يمازح أصحابه ويلاطفهم، ولكنه لا يقول إلاَّ حقًّا، وقد روى عبد الله بن الحارث قال: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ "[2]. كما روى جرير بن عبد الله فقال: "مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي"[3].
"وكان جُلُّ ضحكه التبسم، فإذا تبسم يفتر عن مثل حَبِّ الغمام"[4].
ويسجِّل الإمام ابن القيم وصفه في الضحك أنه كان "جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ ضحكِه أن تبدوَ نواجِذُه. وكان يضحكُ مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعُه ويُستندر".
ثم يضيف بعد أن سجل الوصف هديه أو فلسفته في الضحك، فيقول: "وللضحك أسباب عديدة، هذا أحدها، والثاني: ضحِك الفرح، وهو أن يرى ما يسرُّه أو يُباشره، والثالث: ضحِكُ الغضب، وهو كثيرًا ما يعتري الغضبان إذا اشتدَّ غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضبُ، وشعورُ نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكُه لِمُلكه نفسه عند الغضب، وإعراضِه عمَّن أغضبه، وعدم اكتراثه به"[5].
يؤكِّد ذلك ما يرويه أنس بن مالك فيقول: "كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُردٌ نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذب بردائه جذبةً شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق رسول الله وقد أثّرت فيها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي مِنْ مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء"[6].
ولم يكتفِ نبي الإسلام بأن يكون قدوة في تحقيق هذا الجمال الإنساني، بل إنه دعا إليه وحثَّ عليه؛ فروى أبو ذر قال: قال رسول الله: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ"[7].
ويعني ذلك أن إظهار البشاشة والبِشْر للآخرين حين لُقياهم فيه أَجْرٌ، كما في الصدقة أَجْرٌ[8].
إنها أفعال بسيطة، سهلة، غير مكلفة ولا مجهدة، ولكنها كأثر السحر في الناس. وهي في الإسلام من (المعروف) الذي هو معنى لكل ما يرضي الله تعالى ورسوله. روى أبو ذر أيضًا قال: قال لي النبي : "لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْـمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"[9]. أي: بوجه طليق، ومعناه سهلٌ منبسط باسمٌ مشرق.
التبسم طريق إلى القلوب
التبسم وطلاقة الوجه أول الطريق للقلوب، ونشر المودة والخير والرحمة بين الناس، بما يصبغ المجتمع بالأمان والإخاء والألفة، ومثل هذا المجتمع هو الذي ينشده الإسلام، وله نزلت الشرائع، ولقد كانت هذه الأشياء البسيطة من الإيمان، وكان المؤمن هو القريب من الناس. قال رسول الله : "الْـمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"[10].
والحديث ليس حثًّا على أن يكون المؤمن إلفًا مألوفًا فقط، بل فيه أيضًا التنفير من ضده، أي أنها أمور لا يقبل الإسلام تركها، ولا هي عنده من الزوائد غير الضروريَّة.
الكلمة الطيبة
الكلمة الطيبة في الإسلام ، لكل الناس، وليس لأحد دون أحد، قال الله تعالى في معرض الحديث عن أوامره لبني إسرائيل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"[11].
يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث: "وحاصله مَن كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولاً بالخير، وسكوتًا عن الشر، وفعلاً لما ينفع، أو تركًا لما يضر"[12].
ويكاد الإمام الفخر الرازي يلخِّص مسألة الكلمة الطيبة في تفسيره لآية {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: 83]، إذ يعتبر كل أدب الدنيا والدين داخل تحتها، يقول: "قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إمَّا أن يكون في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية.
- فإن كان في الأمور الدينية فإمَّا أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكُفَّار، أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق.
أما الدعوة إلى الإيمان فلا بُدَّ أن تكون بالقول الحسن، كما قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى. وقال لمحمد : {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وأما دعوة الفسَّاق فالقول الحسن فيه معتبر، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ} [النحل: 125]. وقال أيضًا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
- وأما في الأمور الدنيويَّة، فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصُّل إلى الغرض بالتلطُّف من القول لم يحسن سواه.
فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]"[13]. وبهذه التعاليم كان على المسلم أن يصبح جميلاً: بسمة، وطلاقة وجه، وكلمة طيبة.
د.راغب السرجاني
=============
[1] انظر: الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، مادَّة (ض ح ك) 27/249، 250.
[2] الترمذي: كتاب المناقب، باب في بشاشة النبي (3641)، وقال: هذا حديث حسن غريب. وأحمد (17740)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث حسن.
[3] البخاري: كتاب الأدب، باب التبسم والضحك (5739)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل جرير بن عبد الله t (2475)
[4] الترمذي: الشمائل ص20.
[5] ابن القيم: زاد المعاد 1/182، 183.
[6] البخاري: كتاب الخمس، باب ما كان للنبي يعطي المؤلفة قلوبهم... (2980)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء من يسأل بفحش وغلظة (1057).
[7] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب صنائع المعروف (1956) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن حبان (474، 529)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. والأدب المفرد (891)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2908).
[8] المباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/75، 76.
[9] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (144)، وأحمد (15997)، وابن حبان (468).
[10] أحمد (9187)، والحاكم (59)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6662).
[11] البخاري: كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (5672)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (47).
[12] ابن حجر: فتح الباري 10/446.
[13] الفخر الرازي: التفسير الكبير 3/568.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق