في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , عن رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أنه قال : (( لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثْ الطَّعَامُ وَلَمْ يَخْنَز اللَّحْمُ )) .
ومعنى يخنز : يفسد بسبب الادّخار والخزْنِ خاصة ، هذا هو المعنى الدقيق لكلمة ( خنز) ، وليس معناها الدقيق هو : مطلق الفساد ، كما قد يظن غير المدقق فيها .
قال إمام اللغة أبو العباس المبرِّد في الكامل (٢/ ١٠٠٤) : (( ويقال إذا عَـتُـقَ اللحمُ فتغيّر : خَنَـِزَ وخَـزَِنَ ، وبيت طَرَفة أحسن ما يُنشد :
ثم لا يَخْـنَـزُ فينا لحمُها ••• إنما يخنز لحمُ المدّخِر)) .
وأصله من الفعل اللازم غير المتعدي ( خزنَ ) بتقديم الزاي ، ولذلك يُقال في فساد اللحم : خنز وخزن ، بمعنى واحد . وهذا من القَلْبِ المعروف في اللغة كـ(جذب) و(وجبذ) و(صاعقة) و(صاقعة) . فإذا قلت : خَزَنَ اللحمُ ، فجعلتَ الفعل لازما (لا ينصب مفعولا) ، فهي بمعنى : فَسَدَ ، وإذا قلت : خزن اللحمَ (فنصبت مفعولا) ، فهي بمعنى : ادّخره ، فقط .
وهذا يؤكد علاقة ( خنز) بالفساد الناتج عن الادخار خاصة .
حتى كان من ألقاب اليهود ( الخُـنّاز ) ، لأنهم ادخروا اللحم حتى خنز ، كما في تهذيب اللغة ( ٧/ ٢٠٩ ) .
وهذا الحديث هو أحد الأحاديث الصحيحة التي يطعن بعض المتعجلين فيها ، ويجعلون الطعنَ فيها سبيلا للطعن في المنهج النقدي للمحدثين ، باستنكارهم لمعنى هذا الحديث ، الذي تضمن (حسب رأيهم) خبرًا يكذبه العقل أوضح تكذيب ، وهو أن اللحم وكل طعام لا يقبل الادّخار لا بد من أن يَفْسُدَ ، وهذا مما تدركه العقولُ بداهةً : أن اللحم لا بد أن يفسد ، وأنه كذلك منذ أن وُجد اللحم ، وأنه لا علاقة لذلك ببني إسرائيل !
يقول هؤلاء : فأدنى إعمالٍ للعقل وأول انتباهٍ للتجربة المتيقَّنة : سيدل على كذب هذا الخبر ، وأنه لا يمكن أن يكون قد صدر عن الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أنه لو كان معنى الحديث هو ما ذهبوا إليه لكان خبرًا بيّنَ الافتراء ظاهر البطلان ، حتى لا يكاد يختلف في كذبه رجلان ! هذا صحيح , ولا يشك في صحته عاقل !!
فهل صححه المحدثون (وعلى رأسهم الشيخان) رغم هذا البطلان الظاهر ؟! وهل يتصور عاقل أن بعض أذكياء العالم ( كهؤلاء الأئمة ) قد صححوا هذا الحديث بهذا المعنى الفاسد ؟! فإن لم يكونوا من الأذكياء ، فهلا حسبناهم من جملة العقلاء الذين يدركون فساد هذا المعنى من معناه ببديهة العقل وقَطْعِيّةِ التجربة ؟!!
إذن فأول خُطا إنصاف المحدّثين هي الخطوة التي تُـخرجهم من جملة المجانين إلى جملة العقلاء ؛ لأنهم عقلاء !! لتمنع عنهم تصديقَ معنى تدرك بدائهُ العقول فسادَه !!
وهذه الخطوة ليست خطوةً عاطفية ، ولا خطوة تقوم على تنزيه الأئمة من كل الخطأ ، ولا هو حكم بعصمتهم ؛ إلا إذا لم يكن هناك فرقٌ بين حكمٍ بالعصمة وحكمٍ بالعقل وعدم الجنون فقط ! فهي إذن خطوةٌ تنزههم من خطأ لا يقع إلا من فاقد العقل ، وهؤلاء الأئمة عقلاء ( وسادة العقلاء ) ، فصار واجبُ العقل نفسه ( لا العاطفة ) هو ما يُوجب تنزيههم من مثل هذا الخطأ . وصار اتهامهم بمثل هذا الخطأ اتهاما غير عقليّ ، فلا يقبله العقل .. العقل نفسه الذي يتذرّع به من أورد هذا المعنى إلى تصحيح المحدثين لهذا الحديث .
إذن (وبمقتضى العقل) لا يمكن أن يكون المقصود بالحديث أن اللحم لم يكن يفسد بتاتا قبل بني إسرائيل ، فهذا لا يمكن أن يتصوره عاقل ؛ إذ كل عاقل يدرك أن الصخور (وهي صخور) تتفتت ، والحديد ( وهو حديد) يصدأ ، والأجساد بلحمها وعظمها تبلى بعد الموت . ولا يمكن أن يخفى شيءٌ من ذلك على أبي هريرة رضي الله عنه (راوي هذا الحديث) , ولا على غير واحد من التابعين ممن رووه عنه , ولا على من جاء بعدهم , ولا على البخاري ومسلم وغيرهما ممن قَبِل الحديثَ وصحّحه ؛ فلا يمكن أن يَرْوُوا هذا الحديث (مُحتمِلِين فيه القبولَ والصحة) بمعنى يكذبه العقلُ والحسّ كل هذا التكذيب الظاهر .
ولو كان أبو هريرة كذابا (وحاشاه) رضي الله عنه , فإنه لم يبلغ (حتى عند فجور من يتهمه بذلك) درجةَ أن يُشهِدَ العقلاءَ على كذبه , برواية حديث بمعنى لا يتردد العقلاء في تكذيبه , حِسًّا وعقلا !! وأما التابعون : فقد رواه عنه غير واحد من جِلتهم وأوثقهم , مما يُبعد عنهم الخطأ فيه , فضلا عن الكذب عليه . بل هذا الحديث مرويٌّ (من بين رواياته) في صحيفة همام بن منبه التابعي الجليل الذي كتب ما سمعه عن أبي هريرة , ودوّنه في صحيفته الملقّبه بـ( الصحيفة الصحيحة) , لشدة إتقانها , لتُبعد كتابةُ هذا الحديث عنه احتمالَ وقوع الغلط بسبب النسيان , فكيف إذا رواه مع همام غيره من ثقات التابعين عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟!! فدعوى عدم الكتابة التي يتذرّع بها المشككون في إتقان المحدثين غير متحققة هنا , وانفراد الرواة به عن الصحابي الذي لا يحسن الاستفادة منها المتسوّرون على نقد الحديث ليس متحقّقًا هنا أيضًا .
مثل هذا التتابع على الرواية يمنع العقل (قبل غيره) وقوعَ الغلط فيه . وما بقي عقلا مجرّدًا إلا اتهامُ أبي هريرة رضي الله عنه بالخطأ أو الكذب , وقد أجبنا آنفا عن احتمال الكذب , والتخطيء هو فرع استنكار اللفظ الدال على المعنى الباطل الموجب للردّ والتخطيء , فإذا رددنا على سبب التكذيب , فقد رددنا على سبب التخطيء أيضًا .
فبأي دليل عقلي يرد احتمال الوهم أو الكذب في هذا الحديث ؟!! لا أجد إلا عدمَ التفريق بين الجهل والعلم , وعدمَ التفريق بين أمرين : دلالةِ العقل الصحيحة , وخداعِ الأمزجة والأهواء .
وسأُورد هنا عددا من الآراء في فهم هذا الحديث ، كلها آراءٌ تجعله حديثا لا يعارض العقل . وقد تروق هذه الآراء كلها للقارئ الكريم ، أو قد يروق له بعضها ، وقد لا يروقه شيء منها . لكن عدم إعجابه بشيء منها لا يجيز له أن ينسب لقائليها أنهم صححوا ما يرفضه العقل ، وإن كان عدمُ إعجابه بها مما يُجيز له أن يقول : أخطؤوا فهمَ لفظ الخبر ، وأبعدوا النجعة في تفسيره ، وتكلفوا في تأويله , وتعسفوا في صرفه عن ظاهره ... هذا كله لا مانع منه نظريا ، لكن الممنوعَ يقينًا هو أن ينسب إلى مخالفيه في الفهم فهمًا لم يقولوا به ، وهو فهمٌ ترفضه عقول كل سويّ العقل صحيحه ، مع أنهم لم يقولوا به !! فيقوّلهم ما لم يقولوه ، ثم ينسب إليهم (بما قَوّلهم إياه) أنهم صححوا ما لا يقبله كل عقل صحيح !! هذا هو البغي باسم العلم ، وترك التعقّل باسم العقل !!
فالفرق كبير جدا بين اتهامَينِ : اتهامٍ بعدم العقل , واتهامٍ بخطأ يقع مثله من كل العقلاء . فالأول عدوان وظلم أبدًا إذا اتُّهِم به العقلاء , والثاني قد لا يكون ظلمًا , حتى لو كان لا يوافق الحقيقة .
ولم أقدّم بذكر هذا التفريق لضعف الآراء التالي ذكرُها ، وإنما قدمت به لكي نلتقي على كلمة سواء من العدل والحق ، ويترك بعضنا منهجَ التجهيل والاستخفاف بأئمة الدين ، بحجة النقد العقلي الذي يتهم العقلاء بعدم العقل !
أما الآراء التفسيرية في فهم هذا الحديث ، فهي التالية :
الرأي الأول : ذهب بعض أهل العلم إلى شرح هذا الحديث بأن المقصود فيه : أن بني إسرائيل كانوا لشُحّهم يدّخرون الأطعمة ، حتى التي يُفسدها الادخارُ ، كاللحم ، وأنهم هم أول من أشاع هذه السنة السيئة ، أو أول من سوّغها للناس باسم الدين والشريعة . فكان ادخارُهم هذا هو السببَ في أن شاع هذا الشحُّ بين الناس ، فصاروا يُقدّمون ادخارَ الأطعمة حتى تفسد على أن ينفقوها قبل فسادها .
ولذلك صح أن يقال عنهم : إنه لولاهم لما فسد اللحم والطعام ، بمعنى لولا إشاعتهم طريقة الادخار السيئة هذه لما شاع فسادها بسببه .
فالأولية هنا لا تحكي أولية فساد اللحم (كما ظن الطاعنون) , وإنما هي أولية إشاعة سنة الإفساد بالادّخار . كما تقول عمن اخترع طريقة جديدة في السرقة يصعب التحرّز منها , فشاعت السرقة بسببه : لولا فلان ما سرق السارقون ! والسرقة موجودة منذ وُجدت الخيانة في بني آدم .
ولا ننسى أن مما يؤيد ذلك : أنه بسبب شهرة اليهود بشُحِّ ادّخار الأطعمة هذا كانت العربُ تُسميهم ( الخُـنّاز ) ، كما ذكرتُه كتب المعاجم القديمة .
بل بخل اليهود هو جزاء الله تعالى لهم , وخبره سبحانه عنهم , لما وصفوا الله تعالى وتقدس بإمساك اليد عن العطاء { وقَالتِ اليَهُودُ يًدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهم }.
ومن المعلوم من عقائد اليهود : نظرتُهم الاستعلائية على باقي شعوب الأرض الذين يسمونهم بالأُمَـمِيِّين , وهو مما أثبته ربُّنا عز وجلّ عنهم في كتابه الكريم , وهو موجود أيضًا في توراتهم المحرف حتى اليوم , ومشهودٌ في واقعنا المعاصر لدى العنصريين منهم والمتشددين . فلا يُستغرب أن يُقدّم اليهودُ فسادَ الطعام على إنفاقه , وإنتانَه على أن ينتفع به غيرُهم .
الثاني : وقيل معناه : لولا أن الله تعالى قد علم ما سيقع من بني آدم من الشح والبخل والمنع ، وبخاصة منهم بنو إسرائيل ، لما جعل اللحم يفسد ، ولتنعّمَ الناسُ به بلا فساد . لكنه تعالى لما علم أن الشح سيجعل الأغنياء يجمعون اللحوم ويدخرونها ، وبذلك يمنعونها من الفقراء ، فمنعهم هو تعالى من ذلك بإسراع الفساد إليها .
ويشهد لهذا المعنى ما رواه وهب بن منبه عن كتب أهل الكتاب ، أن الله تعالى قال : (( لولا أني كتبت الفساد على الطعام , لخزنه الأغنياء عن الفقراء )) .
الثالث : وذكروا معنى آخر : وهو أن معنى الحديث : أن بني إسرائيل عندما أنزل الله عليهم المن والسلوى ( والسلوى هي طيور السمان ) ، وكان الله تعالى قد تكفّل لهم بما يكفيهم منها ، فصاروا يكنزونها ، بتجفيفها وتقديدها ، فابتلاهم الله تعالى بفسادها فسادا خارجا عن المألوف ، فكان يُسرع الفساد إلى اللحوم عندهم أسرع من فساد اللحم المعتاد عند غيرهم . ويذكرون ذلك في تفسير قوله تعالى { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
فليس معنى الحديث : أن اللحم لم يكن يفسد قبل بني إسرائيل ، ولكن معناه : أن اللحم لم يكن يفسد على الناس قبل بني إسرائيل فساده لهم ، كما لا يفسد على من قدّده وادخره من الأمم التي لم تُنه عن الادخار ، حتى عصا بنو إسرائيل ربهم عزوجل بادخاره ، ففسد عليهم ، عقوبة من الله تعالى { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
رابعا : ويظهر لي معنى آخر ، غير ما سبق ، وينفع أن يكون هذا المعنى الجديد متمما للمعنى السابق . وهو معنى محتمل أيضا ، لأنه ليس مرفوضا نظريا من الناحية العلمية , بل يشهد لمثله العلمُ الحديث : وهو أنه من المحتمل أن يكون بسبب الادخار والشح الذي كان عليه بنو إسرائيل ، وبسبب أنهم قد ضموا إلى هذه المخالفة الشرعية والسَّوْأة الأخلاقية طريقةً خاطئة في الادخار (كما هو متوقع من جهلهم وبدائية علومهم) : نشأ بسبب ذلك كله (عقوبةً إلهية وسنة كونية) نوعٌ جديد من البكتيريا أو سلالةٌ جديدة من الجراثيم تُسرع بإفساد اللحم ، لم تكن موجودة قبل زمنهم ، فأصبح اللحم يفسد بعدهم أسرع من فساده المألوف قبل ذلك , بسببهم . فصحَّ أن يُقال عنهم لذلك : (( لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَـخْنَزِ اللَّحْمُ )).
فليس المقصود بالحديث أن اللحم لم يكن يفسد بتاتا قبل بني إسرائيل ، فهذا (كما سبق) لا يمكن أن يتصوره عاقل . وإنما المقصود : أن إسراعا بالإفساد هو الذي ظهر على الأطعمة في بني إسرائيل ، وبسببهم , وأن اللحم أصبح منذ زمنهم معرضا لسرعة الفساد ولشدته , بعد أن ظهرت تلك الأسباب التي تُسرّعه .
وهذا ليس غريبا على العلم الحديث , فكلنا يشاهد اليوم ويطالع من حين لآخر أخبارا علمية وتقريرات مختبرات متخصصة عن ظهور أنواع جديدة من البكتيريا القاتلة والمكروبات الضارة والفيروسات الخطيرة ، وبعضها يكون بسبب تصرفات بشرية خاطئة ، بدءا بالإيدز ، وانتهاء بأنفلونزا الطيور والخنازير ، وتطوراتها المتعددة وأجيالها الخطيرة المتجددة .
فلو قال قائل : لولا انتشار الفاحشة الشاذة في الأمة الفلانية لما ظهرت في البشرية هذه الأمراض الفتاكة ، ومر على البشرية آلاف السنين بعد هذه المقالة ، حتى نسيت البشريةُ النشأة الجديدة لهذه الأمراض ، وحتى اعتادوا على وجودها بينهم ، لربما ظن ذلك الجيل من البشرية أن هذا الإطلاق إطلاق غير معقول ! ولم يتنبهوا إلى أن هذا الإطلاق صحيح , وأن خطايا البشر قد تُحدث من الفساد ما لا يعرفه أسلافهم .
إذن : من الممكن أن يكون المقصود بالحديث : لولا بنو إسرائيل لما أسرع الفساد إلى اللحم الإسراع الذي صار معهودا بعدما نشأت تلك المسبِّبات له على أيديهم !
وتخيلوا لو أن العلم الحديث توصّل إلى هذا الأمر : إلى أن نوعا من البكتيريا التي تسبب إسراع فساد اللحم لم يكن موجودا في عصور بشرية سحيقة , قبل بني إسرائيل : هل سيصبح هذا الحديث حينئذٍ إعجازا علميا ودليلا من دلائل النبوة , بعد أن كان طعنا في السنة وفي منهج نقدها ؟! كما حصل ذلك في حديث الذبابة !!
ما أضرَّ أمة بتراثها بمثل هذه الجرأة المذمومة ! وما أعقَّها بأسلافها حينما لا ترضى إلا أن تُنزلهم منزلة الحمقى والمغفلين !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق