بقلم : عواطف المالكي
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
الحمد لله على نعمة الإسلام وأكرم بها من نعمة.
والصلاة والسلام على رسول الله معلم البشرية الخير، أدّبه ربه فأحسن تأديبه، تمثل القرآن الكريم في خُلقه وتأدب به، عندما سُئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن الكريم".
علَّم - عليه الصلاة والسلام - أصحابه وأدّبهم بهذا النور المبين، فأصبحوا خير القرون، لتمثّلهم به، تعلموه وعملوا به.
والقرآن الكريم يشتمل على آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين، منها: الاستئذان، هذا الأدب الجم، الذي يحفظ للنفس البشرية استقلالها، ويجلب لها الراحة والاستقرار والاطمئنان.
وقد وردت آيات الاستئذان في سورة النور، هذه السورة العظيمة التي لابد لكل أسرة مسلمة أن تحرص على تعليمها لأبنائها.
والاستئذان نوعان:
* استئذان الأجانب بعضهم على بعض.
* استئذان الأقارب بعضهم على بعض.
فلنتعلم ونتأمل هذه الآداب من خلال الآيات القرآنية، وشرح السنة القولية والفعلية لهذه الآيات.
* أولاً: استئذان الأجانب بعضهم على بعض:
قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. [النور: 27].
أمر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات عباده أن يسلكوا أدباً جمّاً، به ترتفع النفوس وتطمئن بالاستئناس والسلام.
ومن بلاغة القرآن وبيانه أنه جاء بلفظ: تَسْتَأْنِسُوا لما في هذه الكلمة من معانٍ عظيمة بدخول الأنس والطمأنينة لأهل البيت بالاستئذان والسلام، فإمّا يؤذن لك، وإلا فارجع رحب الصدر مرتاح البال.
روى الأمام أحمد عن أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أستأذن على سعد بن عباده، فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثاً ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجع، فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمت تسليمه إلا وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أُُسمعك، وأردت أن استكثر من سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل نبي الله، فلما فرغ قال: "أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون".
فهذا معلم البشرية - صلى الله عليه وسلم - يتمثل آية الاستئذان، فعندما لم يسمع الأذن له بالدخول رجع - بأبي هو وأمي - أدب جم، وخلق كريم، وقيم تربوية، ما أحوج الأسر المسلمة لتعلمها وتلقينها لأبنائها.
علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن له وإلا انصرف، مع عدم الإلحاح بالدخول أو الاستئذان أكثر من ثلاث؛ لأن الله يقول: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ. [النور: 28]. أي: أطهر لكم ولقلوبكم. وحتى لا تكون ضيفاً ثقيلاً على أهل البيت وغير مرغوباً به.
وكذلك من الآداب التي علمنا إياها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الاستئذان: عدم الوقوف مستقبل الباب عند الاستئذان.
جاء رجل فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن، فقام على الباب أي مستقبل الباب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا عنك- أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر". أي: حتى النظر يحتاج إلى الاستئذان، فالحكمة من الأمر بعدم الوقوف أمام الباب والوقوف بجانب الباب حتى لا يسبق النظر الإذن بالدخول، وهذا فيه احترام لحقوق أهل البيت وحياتهم ولحرماتهم.
واليوم نرى البعض لا يتأدب بهذه الآداب، فيدخل بدون استئذان، وإذا لم يؤذن له غضب وعزم على أن لا يأتي لأهل البيت ثانية!.
والبعض الآخر يترك لنظره العنان، ونظره يسبق الأذن.
وقد شدّد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مسألة النظر، ففي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو أن امرئاً أطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاةٍ ففقأت عينه ما كان عليك من جناح". وذلك صيانة لأعراض المسلمين وحرماتهم.
ومن الآداب النبوية أيضاً أن يعرف المستأذن بنفسه، ولا يقول: "أنا".
أخرج الجماعة عن جابر قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دَيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، قال: أنا، أنا! كأنه كرهه". وإنما كره ذلك لأنه لا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس، وإلا فكل واحد يعبر عن نفسه بـ "أنا" فلا يُعرف من الطارق إلا بالإفصاح عن اسمه حتى يحصل الإذن.
أيضاً علّمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيفية الاستئذان، ففي الحديث: "أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فقال: أألج؟. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه: اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل".
* النوع الثاني من الاستئذان هو: استئذان الأقارب بعضهم على بعض:
قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. [النور: 58].
أمر الله - تعالى - في هذه الآية المؤمنين بأدب الاستئذان من قبل خدمهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاث أحوال:
الحالة الأولى: من قبل صلاة الفجر؛ لعلةِ أن الناس نيام في فرشهم.
الحالة الثانية: وقت الظهيرة، والعلة في هذا الوقت أن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، ويسمى هذا الوقت "القيلولة" حيث ينام فيه المرء ويرتاح جسده.
الحالة الثالثة: من بعد صلاة العشاء، لأنه وقت النوم، فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت (الزوجين) في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل مع أهله أو نحو ذلك من الأعمال؛ لذلك عبر عنها بقوله - تعالى -: ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ.
فإذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم؛ لأنهم طوافون عليكم في الخدمة وغير ذلك، ولأن الأطفال كثيري الدخول على أبويهم، فحذّر هذه الأوقات للمنع احتراماً لهم أن تقع أنظارهم على ما يخدش الحياء، وحتى لا يرى الأطفال أشياء يجب أن نمنعهم عنها حفاظاً عليهم.
ولما كانت آية الاستئذان آية محكمة وكان عمل الناس بها قليلاً أنكر عليهم عبد الله بن عباس - حبر الأمة - أنه قال: "لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لأمر جاريتي هذه أن تستأذن علي، أي لم يعملوا بها كثير من الناس".
ثم أمر الله - سبحانه وتعالى - الأطفال إذا بلغوا الحلم - أي سن الرشد والتكليف - وجب عليهم الاستئذان في كل الأوقات والأحوال وليس فقط في الأحوال الثلاثة، وذلك في قوله - تعالى -: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ. [النور: 59] يعني: كما كان الأطفال قبل أن يبلغوا الحلم يستأذنون فليستأذن الذين بلغوا الحلم دائماً.
* الاستئذان على الأمهات والأخوات:
ويجب الاستئذان على الأمهات والأخوات، فقد روي أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فنزلت الآية، قال - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. [النور: 27].
* وقفة:
في قوله - تعالى -: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا.
قال ابن كثير في تفسيره: " هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع.
أما الأولى فليسمع الحي، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردّوا، ولا تقفنّ على باب قوم ردّوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر". أهـ
وفي قوله - تعالى -: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ. أي أطهر. وقال قتادة: قال بعض المهاجرين: "لقد طلبت عمري كله هذه الآية، فما أدركتها، أن استأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع وأنا مغتبط".
إنّه يفرح بامتثاله لأوامر الله - تعالى -، وتطهر الله - تعالى -له، هكذا الصحابة رضوان الله عليهم يعتبرون القرآن رسائل من ربهم لهم، فلا يتجاوزون الآية حتى يتعلموها ويعملوا بها، فرضي الله عنهم أجمعين.
ونحن الآن نرى أنّ الأم والأب يربون أبناءهم على أمور كثيرة ولكن يغفلون عن تعليمهم الاستئذان وآدابه، ونرى الأطفال يدخلون على الوالدين في جميع الأوقات والأحوال، وينامون معهم بعض الأحيان على سررهم، ويظنون أن الطفل لا يفهم، وأنه صغير! والله علمنا في الآية التي أمر بها الأطفال بالاستئذان أنهم لم يبلغوا الحلم، أي: أنهم تحت سن التمييز الذين نظن أنهم اليوم صغاراً، ثم نرى أطفالنا اليوم وهم صغاراً يعلمون ويعرفون أموراً لا ينبغي لهم، ثم نقول من أين لهم هذا؟!. وهذا من عدم تنفيذنا لأوامر الله - تعالى - والعمل بها.
وقد استنكر ابن عباس على أكثر الناس في زمانه بعدم العمل بآية الاستئذان، فكيف لو رآنا في هذا الزمان والأطفال يدخلون في كل حين؟ والله المستعان.
فلنتعبّد اللهَ - تعالى - بهذا الأدب الرباني، ونعلم أبناءنا كيفية الاستئذان ومتى يكون وأحواله، والحكمة منه في حال كبرهم وبلوغهم الحلم.
وأمّا الصغار منهم فنأمرهم بالاستئذان في الأحوال الثلاثة؛ لكي نعمل بالقرآن ونتمثّله كما تمثّله الصحابة رضوان الله عليهم.
نسأل الله - عز وجل - أن يعلمنا العلم النافع، وأن يرزقنا العمل الصالح، ونسأله - سبحانه - الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.