بقلم : عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
شيخ الحديث بمعهد الدعوة الإسلامية ومعهد إعداد الدعاة - القاهرة - مصر
• ما حقُّ
الله على الخلق؟
يقول -
تعالى - ذكره ـ: ( وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا
أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْـمَتِينُ * فَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا
مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الذاريات: 65 - 60].
في هذه
الآيات يبين الله - تعالى - الغاية من خلق الخلق بنوعَيْه: الإنس والجن، وهي (إلا
ليعبدون)، ومعنى العبادة في اللغة: التذلُّل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس
خاضع لقضاء الله، متذلِّل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خـروجاً عما خُلِق عليه.
والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثـابتة لجـميع
المخلـوقات..فتأمَّل! فالمراد بالعبادة التذلل والخضوع لا التسـخير؛ لأن الكل
عابدون إياه - تعالى - بالتسخير؛ لا فرق بين مؤمن وكافر، وبرٍّ وفاجر، وطير
وحيوان، وجمادات وأحياء، كما في قوله - تعالى -: ( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ
يَسْجُدَانِ) [الرحمن: 6]، فهذه عبادة بالتسخير.وكما في قوله - تعالى -: ( ثُمَّ
اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11].
ويؤيد ذلك
ما قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (إلا ليعبدون) أي: إلا لآمرهم أن
يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، ويؤيده قوله - عز وجل -: ( وَمَا أُمِرُوا إلاَّ
لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا) [التوبة: 13].
وقيل: (إلا
ليعبدون) إلا ليوحِّدوني، فأما المؤمن فيوحِّده في الشدة والرخاء، وأما الكافر
فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله - عز وجل -: ( فَإذَا
رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت:
56].
ومثل هذه
الآيات يأتي لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله - تعالى - وقد خُلقوا لها.
فقوله: (
وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) خبر مستعمل في التعريض
بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنّتها اتباعاً
لتضليل المضلين. واللام في (ليعبدون) لام العلة، أي: ما خلقتهم لعلة إلا علة
عبادتهم إياي، والتقدير: لإرادتي أن يعبدوني، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة
البيان: ( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) أي:
ما أرضَى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرُّد بالإِلهية. فمعنى الإرادة هنا:
الرضى والمحبة.
ونخلص مما
تقدم بأن الله - تبارك وتعالى - خلق الخلق ليعبدوه، وبالإلهية يفردوه، وهذا حقه
على الخلق، فمنهم من حقق الغاية التي ما خلق الله الخلق إلا لأجلها وقام بمقتضى حق
ربه عليه وهم المؤمنون، ومنهم من كفر وخالف وعارض قصد الله ومراده من خلق الخليقة
وهم الكافرون.
ومن هنا
يتقرر أن عبادة الخلق ربَّهم وخالقهم الله الحكيم العزيز، هي حقه الخالص الذي يلزم
الخلق جميعاً أداؤه والقيام بموجباته، وأنه أمر لازم حتم لا اختيار فيه، وأنه قضية
الوجود وأوجب الواجبات على كل إنسيٍّ وجنيٍّ شاء أو أبى، وأنه ليس تفضّلاً من
الخلق على خالقهم بحيث يظن من عَبَدَ الله أنه أحسن إلى الله - تعالى -الله عن ذلك
علواً كبيراً ـ ومن لم يعبد الله فله الحرية وهو حرٌّ يفعل ما يشاء، هذا من الضلال
البعيد.
وبناءً
عليه؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - شدَّد على عبادته وحده دونما سواه، وأمر بذلك كل
الخلق من خلال كل الأمم والشعوب والأجناس والأعراق، وعن طريق الرسل.
قال -
تعالى -: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ) [النحل: 63].
وقال -
تعالى -: ( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [المؤمنون: 13 - 23].
وهذا بيان
مجمل، وقد جاء مفصلاً في آيات أخر فقال ـ عز من قائل ـ: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف:
59].
وقال -
تعالى -: ( وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [الأعراف: 56].
وقال -
تعالى -: ( وَإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِـحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن
رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الأعراف: 37].
وقال -
تعالى -: ( وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن
رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْـمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِين) [الأعراف: 58].
وغير هذا
كثير في القرآن؛ ليعلم الخلق جميعاً حق ربهم عليهم وأنهم مطالبون به، وتحذيرهم
بشدة من مغبَّة المخالفة في إقامة هذا الحق وتحقيق مقتضياته، والتهديد والوعيد ممن
يملك الوعيد ويقدر عليه وحده، من تضييع تلك الوظيفة الشرعية التي ما خلقهم إلا
لها، والوقوع في الشرك والكفر والردة.
قال -
تعالى -: ( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة: 161].
وقال -
تعالى -: ( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 65].
وقال -
تعالى -: ( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ
مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران: 19].
وقد بيَّن
- سبحانه - طريق تحقيق تلك الغاية التي ما خلق الله الخلق إلا لها وهي عبادته وحده
لا شريك له من خلال دين لا يرضى سواه الآن وبعد بعثة خاتم النبيين والمرسلين محمد
- صلى الله عليه وسلم -، حيث قال - سبحانه -: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا)
[المائدة: 3].
وقال ـ عز
من قائل ـ: ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْـخَاسِرِينَ) [آل عمران: 58].
وهو -
سبحانه - لا يرضى لعباده الكفر أبداً، قال ـ عز من قائل ـ: ( إن تَكْفُرُوا فَإنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وهذا قطع
لكل جدل حول حرية الأديان، وبيان أنها حرية لمن أراد الهلاك والخسران، وليست حرية
تعني الاختيار المقتضي للتنقل بين متساويين أو متماثلين، كلّا وألف كلّا، فهو
اختيار بين النجاة والهلاك، بين الإيمان والكفر، بين الجنة والنار.
ولإجلاء
البيان في هذه القضية ـ قضية المفاصلة وعدم التقاء طـرق الكفـر بطـريق الحـق
والإيـمان ـ أمر الله نبيه أن يخاطب كل من أبى عن قبول الحق الذي جاء به من أولئـك
الكافرين والمستكبرين والمستنكفين؛ بأن يقول لهم: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِين)، بمعنى: أنا هنا وأنتم هناك، ولا معبـر ولا جسر ولا طريق، مفاصلة كاملة
شاملة، وتميُّز واضح دقيق.
ولقد
كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل الذي يستحيل معه
الالتقاء على شيء في منتصف الطريق.. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور،
وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق، وأن الطريقين ـ طريق الكفر وطريق الإيمان ـ لا
يستويان ولا يلتقيان.
وقال -
تعالى -: ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].
وقال -
تعالى -: ( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِـحَاتِ وَلا الْـمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ) [غافر: 85].
وقال
أيضاً: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْـجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْـجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20].
إذاً؛
فحرية الاختيار بين الإيمان والكفر، أو بين الإسلام وغيره من الأديان ـ التي لا
يرضاها الله - تعالى -ـ هي حرية اختيار بين النجاة والهلاك، بين الفوز والخسران،
بين الغرور واليقين. فعندما يقول - تعالى -: ( وَقُلِ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا
لِلظَّالِـمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا
بِمَاءٍ كَالْـمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ
مُرْتَفَقًا) [الكهف: 92]، فهو تخيير مع تحذير، والعاقل من أنجى نفسه، والسفيه من
أورد نفسه المهالك والعياذ بالله - تعالى -.
ويقول -
تعالى -: ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)
[الزمر: 8]، فهل بعد ذلك بيان؟ لكن الهدى هدى الله.
ومن هنا
شدَّد الله - تعالى - على مَنْ كفر بعد إيمانه شدةً بعد شدة؛ لأنه قَبِل الهدى
وأطاع ربه وقَبِل أداء ما خُلِق له؛ من عبادة ربه - تعالى - وحده دونما سواه،
ولكـنه رضي بالدنيّة، وأعطى ربه ظهره وارتدَّ على أعقابه، فشدَّد الله عليه
العقوبة أكثر ممن أعلن الاستنكاف أولاً ـ والكل هالك كلٌّ بحسب علم الله فيه ـ
وذلك لئلا يُتخذ دين الله هزواً ولعباً، وتعظيماً لأمر الله ودينه، ومن قبلُ
تعظيماً لصاحب الأمر - سبحانه - الكبير المتعالي العظيم الشأن، الذي لا يليق بأحد
كائناً من كان أن يُقبِل عليه ثم يدبر.
واللهِ لو
كان ذلك يحدث مع ملوك أو معظَّمين في الدنيا لقتلوا فاعل ذلك ألف مرة لو قدروا، بل
كلَّ من وراءه؛ لئلا تُسوِّل نفسُ أحدٍ أن يفعل مثل فعل ذلك السفيه، وما يفعلونها
إلا كبراً وثأراً، وسيجد كثير من الناس لصنيعهم
ـ وهو
الفتك به فتكاً ـ سيجدون ألف عذر ومخرج. أما في حق المليك المقتدر صاحب الحـق الذي
يعـلو ولا يُعلى عليه، مَنْ خلق وذَرَأ وبَرَأ ورزق، مَـنْ له الملك كله، وإلـيه
يرجـع الأمر كله، وبيده الخير كله، وله الحمد كله وحـده دونما سـواه؛ فالأمـر معه
ـ عند السفهاء ـ هيّن؛ فيجوز سفهاً أن نُقْـبِل عليه وندبر ولا أحد ينكر، ومـن
أنكــر كـان فـعـله منكَــراً. لا؛ واللهِ! وألـف لا؛ فحـق الله هـو الحـق، ومـن
أقـبل علـيه ثم أدبـر فهو أهلك ممّن استنكف ابتـداءً. وكـل محـب لله - تعالى -
يغار ويكره ويبرأ وكان له الحكم؛ ثأَرَ لربه وعظّم حق الله، ولم يخلط بين قدسية حق
الله وحرية الاختيار؛ فقدسية حق الله فوق كل اعتبار.
ومن هنا
قال - تعالى -: ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ) [آل عمران: 68].
وقال -
تعالى -: ( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً
لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) [آل عمران: 90].
وجاء على
لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ))[1].
وقَـالَ
رَسُـولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( لَا يَحِـلُّ دَمُ امْـرِئ مُسْلِمٍ
يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا
بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْـسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالمـارِقُ
مِن الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ))[2].
وفي
رواية: ((أَوْ يَكْفُر بَعْد إسلامه)) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح،
وَفِي لَفْظ لَهُ صَحِيح أَيْضاً: (( ارْتَدَّ بَعْد إِسْلَامه))، وَلَهُ عَنْ
عَائِشَة: (( أَوْ كَفَرَ بَعْدمَا أَسْلَمَ))، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد
النَّسَائِيِّ: (( مُرْتَدّ بَعْد إِيمَان)). قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد:
(الرِّدَّة سَبَب لِإِبَاحَةِ دَم الْـمُسْلِم بِالْإِجْمَاعِ)، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: (قَوْله: (( التَّارِك لِدِينِهِ)) عَامٌّ فِي كُلّ مَنْ ارْتَدَّ
بِأَيِّ رِدَّة كَانَتْ، فَيَجِبُ قَتْله إِنْ لَمْ يَرْجِع إِلَى الإسلام)[3].
وقد يقول
قائل: هل قَتَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرتداً أو أمر بذلك فـي حضرته؟
أقول
وبالله الـتوفيق، وردّاً على كثـير مـن أهل الفتنة والضلال: نعم! ففي الحديث: ((
أَنَّ رَسُـولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَـامَ الْفَتْحِ وَعَلَى
رَأْسِهِ الْـمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُـلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ
خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ! فَقَالَ: اقْتُلُوهُ))[4].
قال ابن
حجر في فتح الباري:
"
وَالسَّبَب فِي قَتْلِ ابْن خَطَل وَعَدَم دُخُوله فِي قَوْله: (( مَنْ دَخَلَ
الْـمَسْجِد فَهُوَ آمِنٌ))، مَا رَوَى ابْن إِسْحَاق فِي الْـمَغَازِي: إَنَّ
رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حِينَ دَخَلَ مَكَّة قَالَ: (( لَا يُقْتَل
أَحَدٌ إِلَّا مَنْ قَاتَـلَ))، إِلَّا نَفَـراً سَـمَّاهُمْ، فَـقَالَ: ((
اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ تَحْت أَسْتَار الْكَعْبَة))، مِنْهُمْ عَبْد
اللَّه بْن خَطَل وَعَبْد اللَّه بْن سَعْد، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِقَتْـلِ ابْن
خَطَل؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِماً فَبَعَثَهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم
- مُصَدِّقاً وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَار، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلىً
يَخْدُمهُ وَكَانَ مُسْلِماً، فَنَزَلَ مَنْزِلاً، فَأَمَرَ الْـمَوْلَى أَنْ
يَذْبَحَ تَيْساً وَيَصْنَع لَهُ طَعَاماً، فَنَامَ وَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَع
لَهُ شَيْئاً؛ فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكاً، وَكَانَتْ
لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -) ا
هـ.
وقال
النووي في شرح مسلم: " قَوْله: (( جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: ابْن خَطَل
مُتَعَلِّق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة! فَقَالَ: اقْتُلُوهُ))، قَالَ الْعُلَمَاء:
إِنَّمَا قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَام وَقَتَلَ
مُسْلماً كَانَ يَخْدُمهُ) ا هـ.
فإذا قال
قائل بعد ذلك: فأين حرية العقيدة؟
قلنا له:
لقد كفل الإسلام حرية العقيدة عند العرض الأول بلا إكـراه ولا ضغـوط البـتة؛ لأن
الإكراه على المعتقد لا يقدر عليه إلا الله، حتى المسلم لو أُكره بالبطش والجبروت
على خلاف دينه ومنهجه وشريعته فمأذون له، إلا في القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد
عليه إلا للـه وحـده، ولا يعـلم ما فيه إلا الله، لذلك قال - تعالى -: ( مَن
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106].
وفي إثبات
حرية الاعتقاد وعدم قدرة أحد على الإكراه في ذلك، قال - تعالى -: ( لا إكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..) [البقرة: 256].
وقال -
تعالى -: ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ
فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 20].
وقال -
تعالى -: ( فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ *
إلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ *
إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ * ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية: 26 -
21].
وبناءً
عليه؛ فيا أيها العاقل الرشيد في مشارق الأرض ومغاربها! اعلم أن الله لم يخلقك
لعباً ولهواً، ولم يتركك لنفسك ولا لشياطين الإنس والجن، ولم يترك لك الأمور
تقلِّبها كيف تشاء فيما يتعلق بحقه والغاية من إيجادك في هذه المعمورة، بل رسم لك
الطريق وحدَّد معالمه بدقَّة، وأمرك بلزوم هذا الطريق وعدم الجور إلى غيره؛ فقال ـ
عزّ من قائل ـ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
وخيَّرك
بحسب إرادتك للرشد أو للغي، للـنجاة أو للهلاك، ثم حذّرك وأنذرك إن أنت أقبلت ثم
أدبرت؛ فالويل الويل للّاعب المستهتر الذي يتخذ دينه لعباً ولهواً، ويتعامـل معه
باستهزاء لا جدّ فيه، عندئذٍ لا يلومنّ الهالك إلا نفسه. فلا تعارُضَ أبداً بين
تقديس حق الله وحرية الاختيار؛ التي أثبتها الله للمعروض عليه الدين والمدعو إليه.
ومن عجبٍ
أن يتبجَّح المتبجِّح فيجعل حقوق المخلوقين في مثل هذا المقام معقولة ومقبولة،
وتقديس حق الله غير مقبول ولا معقول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِبًا [الكهف: 5]!
فمثلاً: إن
في النصرانية ما يسمى (حق الحرمان)، وهو عقوبة مشهورة ومطبَّقة، بل كان البابوات
يطبقونها على الخارجين عن سلطان الكنيسة ولو كانوا من الأباطرة.
ولِـمَ
نذهب بعيداً؟ فكل هيئة أو تنظيم أو حزب يرى من حقِّه أن يعاقب أيَّ عضو من أعضائه
إذا أخلَّ بما يُسمَّى الالتزام الحزبي؛ فهل الدين أهون من مثل ذلك؟
وكذلك
الخيانة الوطنية على المستوى السياسي، وخيانة الوطن في السياسة جزاؤها الإعدام؛
فهل تكون خيانة الدين أقل منها؟
الإسلام لا
يجبر أحداً على الدخول فيه؛ فإذا ارتضاه بحرية واقتناع ودخل فيه فعليه أن يلتزمه؛
لأن الأمر في الدين جدّ لا عبث فيه.
وأخيراً:
أقول للجميع في جميع الأماكن: قال - تعالى -: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِـمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْـمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا
نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ) [الصف: 7 -
31].
هذا؛ وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
------------------
[1] أخرجه
البخاري (2794).
[2]
البخاري (6370).
[3] انظر:
فتح الباري عند شرح الحديث المذكور.
[4]
البخاري (1715).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق