بقلم : عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
شيخ الحديث بمعهد الدعوة الإسلامية ومعهد إعداد الدعاة - القاهرة - مصر
قال الشنقيطي: "أي: ولذلك الاختلاف، إلى المؤمن وكافر وشقي وسعيد، خلقهم على الصحيح، ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جداً"[1].
وقال - سبحانه -: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)[الرُّوم: 22]. وحينما أنزل الله القرآن الكريم، لم ينـزله كله آيات محكمات، وإنما جعل منها أُخر متشابهات: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] آل عمران: 7 فالآيات المحكمة هي الثابتة القطعية التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً في التفسير، أما الأُخَر المتشابهات فهي التي تفتح مجالاً للاختلاف والاجتهاد.
قال ابن سعدي: "القرآن العظيم كله محكم؛ كما قال - تعالى -: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هود: 1] فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة: 50] وكله متشابه في الحسن والبلاغة، وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظاً ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله: (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)[آل عمران: 7] أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال: (هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ) أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، (و) منه آيات (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضاً ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة" ا. هـ[2].
ولا تعارض ولا تناقض ولا تضاد بين أمر الله لنا بكلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، وبين مشروعية الاختلاف، وأن يقع التباين في وجهات النظر في فروع الدين وجزئيات المسائل، وإن الأمة اعتبرت تعدد الاجتهادات وتنوع الرؤى عاملَ ثراء وعامل خصوبة، لذلك جاءت القاعدة الفقهية الجامعة: "إجماع العلماء حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة".
ولكي تحقق الأمة التوافق بين مشروعية الاختلاف وبين واجب الاتحاد، ينبغي أن لا تجعل اختلافها تصارعاً يؤدي إلى أن يكفر بعضها بعضاً، ويفسّق بعضها بعضاً، ويبدّع بعضها بعضاً، فيكون هذا مؤدياً إلى تفرّقها وفشلها وذهاب قوتها وخيرها، وتحقيق مطامع أعداءها فيها. قال - سبحانه -: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46] ولا يدخل في ذلك ما يحتاج لبيان حال شخص مبتدع، أو أشخاص منحرفين، نصحاً للأمة، فهذا يقتضيه الحال، وواجب على أهل العلم بيانه.
إنّ الأمة إذا أدركت معنى الاختلاف، وراعت أدب الاختلاف، واحترمت حق الاختلاف، وعالجت الاختلاف عبر بوابة الحوار، الحوار بالكلمة الطيبة وبالتعبير الحضاري، حافظت على وحدتها وعلى أمنها، وعلى استقرارها، وعلى تلاحم رُعاتها ورعيّتها، هكذا كان المسلمون قديماً يرعون الخلاف، ولكنهم يحققون أدب الاختلاف ورحمة الاختلاف، وهكذا ينبغي على الأمة اليوم أن تحقق ذلك.
لقد أقرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عام الخندق على اختلافهم في فهم دلالة الحديث: ((لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة))[3].
فبعض الصحابة تمسكوا بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك البعض الآخر بمفهوم النص والمراد منه، وقالوا ما أراد منا رسول الله إلا أن نسرع في الطريق ولم يرد منا أن نؤخّر صلاة الفريضة عن وقتها، فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: "ولم يعنّف النبي - صلى الله عليه وسلم - واحداً منهم" فهذا إقرار منه - صلى الله عليه وسلم - على مبدأ الاجتهاد، وإقرار منه على مبدأ الاختلاف.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)) وقال للذي توضأ وأعاد ((لك الأجر مرّتين))[4].
وإذا جئنا إلى الخليفتين الرَّاشِدَيْن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - نجد الاجتهاد يتعدد عندهما، وكذلك نجد الاختلاف عند ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - يقع بينهما في الفروع، فابن عباس يذهب إلى التيسير والأخذ بالرخصة المشروعة، كما كان ابن عمر يذهب إلى الأخذ بالعزيمة، فما ضاقت الأمة بعزائم ابن عمر، كما لم تَضِق ذرعاً بِرُخَص ابن عباس، كان ابن عمر لا يحب أن يحمل الصبيان على صدره، خشية أن تَسيل بعض نجاساتهم عليه، وكان ابن عباس يضمهم إلى حنايا صدره ويقول: ((إنما هي رياحين نشمها)).
واختلف ابن مسعود وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - على كثرة التشابه بين منهجهما الفقهي، حتى أوصل ابن القيم المسائل التي اختلفوا فيها إلى مائة مسألة، ومع ذلك انظر إلى ثنائهما على بعضهما. يقول عمر عن ابن مسعود: "كُنَيفٌ ملئ فقهاً، وعلماً آثرت به أهل القادسية"[5].
ويقول ابن مسعود عن عمر: "كان للإسلام حصناً حصينا، يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أُصيب عمر انثَلم الحصن"[6].
ولم يكن اختلاف الإمام أحمد مع شيخه الشافعي مؤدياً إلى التهاجر والتقاطع والتدابر، بل كان العكس، فقد كان الإمام أحمد لا يصلي صلاة، ولا يبيت ليلة إلا ويرسل مع دعواته نسيماً من الدعاء لشيخه الشافعي، حتى عَجِبَ ابنه عبد الله وقال له: يا أبتِ لقد سمعتك تُكثر الدعاء للشافعي، مَنْ هذا الشافعي؟ فقال: يا بنيّ كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.
ولما أراد الشافعي أن يغادر بغداد لم ينسَ الوفاء لتلميذه الذي كان بارّاً به، رغم ما وقع بينهم من اختلاف في الاجتهاد وفي المذهب، فقال الشافعي: لقد تركت بغداد، وما خلّفت فيها أورع ولا أعلم ولا أهدى من أحمد بن حنبل.
وحينما صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة لم يقنت ولم يجهر بـ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1] تأدّباً مع أبي حنيفة - رحمه الله -.
قال القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن: كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً.
وكذلك نجد الاختلاف عند الإمامين الجليلين الليث بن سعد «فقيه مصر» ومالك بن أنس «فقيه الحجاز»، ومع ذلك فقد كانا يتبادلان الرسائل، وكل منهما يستدرك على الآخر آراء وفتاوى، ويدعو كل منهما للآخر بالخير، ويسأله أن يتواصل معه عبر الكتاب، وإن كانت له حاجة فإنه يُسرُّ بقضائها.
فهذه بعض الأمثلة الرائعة من اختلاف السلف، وكيف تُبْرز أدب الاختلاف، ورحمة الاختلاف، وخُلُق الاختلاف، كان هديهم كما قال ربنا - سبحانه -: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].
فينبغي أن يكون المسلمون اليوم، متعاونين متناصحين، وأن لا يكون اختلافهم في جُزْئيات المسائل مُؤدياً إلى تفرّقهم وذهاب قوّتهم.
لا بد أن نبحث عن القواسم المشتركة، وعن الجوامع، وعن الأصول التي تلتقي عليها الأمة، فما أكثر ما نتفق عليه، وما أقل ما نختلف فيه، فما نتفق عليه لابد أن نعمل على إحيائه وتقريبه، أما الاختلافات في مسائل فقهية، ونصوص شرعية، فلا يكون سبباً للشقاق والتهاجر.
فالأمة اليوم أمام تحدٍّ حضاري وغزوٌ ثقافي، لا يمكن أن تواجهه وهي أوزاع متفرقة ومذاهب متشتتة، بل لا بد أن نعلي شأن الترفع عن الاختلاف المشروع بيننا حتى نقطع الطريق على الذين يتربصون بنا الدوائر، وأن نتمسك بالتوحيد الخالص، ونحارب البدع المضلة.
إنّ على العلماء والدعاة أن يُعَلّموا الناس إذا اختلفوا في الفروع والمسائل الجزئية كيف يحققون حق الاختلاف، وكيف يرعون أدب الاختلاف، ورحمة الاختلاف حرصاً منهم على وحدة الأمة، وحتى لا يكون اختلافهم سبباً في حصول التدابر والتفرق، والاختلاف المذموم. قال - تعالى -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105] وقال - سبحانه -: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
وأختم بذكر بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الاختلاف:
1- ينبغي إحسان الظن بأهل العلم، وأن لا يُعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان لهم، وقد يكون هو المخطئ، وعليه فلا يعتقد هلكتهم في خلافهم له، بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد))[7].
2- أن لا ينكر على المجتهد في اجتهاده، وعمله بهذا الاجتهاد ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه، أو المحاورة معه للخروج من الخلاف، والوصول إلى الحق بل هو الأولى.
3- العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].
4- على المسلم إذا أراد الحوار أن يتواضع لإخوانه، وأن يلتزم الحق في حواره معهم.
5- وينبغي أن يكون جداله معهم بالتي هي أحسن، فقد قال - تعالى- في أهل الكتاب: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[العنكبوت: 46] وقال في حق غيرهم: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة: 83]. وبدون سوء ظن، وتهم.
نسأل الله أن يجمع قلوبنا على البر والتقوى.
_____________
1- أضواء البيان 7/149.
2- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 122.
3ـ البخاري ح 946 ومسلم ح 177.
4ـ رواه أبو داود، الطهارة 338- والدارمي، الطهارة 769- والدار قطني، باب الطهارة 742 والبيهقي، كتاب الطهارة 1136.
5ـ سير أعلام النبلاء 1/491.
6- المستدرك ح 4522.
7- البخاري/7352/ الاعتصام بالكتاب، و مسلم/4584/ الأقضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق