فضيلة الشيخ : محمد الخضر حسين
في كل خصلة فاضلة شرف وخير، ولكل خصلة فاضلة أثر في سعادة الجماعة، وقد تتفاوت هذه الخصال بكثرة الحاجة إليها.
ومن الخصال التي تكثر مواضيع الاحتياج إليها صدق اللهجة؛ فلا غنى للجماعة عن أن يكون فيها صدق وحلم.
والأحوال التي يحتاج فيها إلى الصدق أكثر من الأحوال التي يحتاج فيها إلى الحلم، ونحن لا نشعر بالحاجة إلى شجاعة السيدات والأطفال، وكل منا يشعر بالحاجة إلى صدق الطفل الآخذ في التردد على المدرسة، وصدق الصانع في مصنعه والأمير على كرسيه.
فالكلمة التي نلقيها في هذه الليلة إنما نصف بها فضيلةً شأنها رفيع، وأثرها في الاجتماع كبير، وهي صدق اللهجة.
ولا تثريب علينا إذا تناولنا في أثناء بحث هذه الفضيلة نبذة من الحديث عن ضدها وهو الكذب؛ فإن حقائق الفضائل تتجلى بمعرفة أضدادها.
ما هو الصدق؟
الصدق في لغة العرب: إلقاء الكلام على وجه يطابق الواقع والاعتقاد.
ومقتضى هذا الشرح أن الكلام الذي يخالف الواقع والاعتقاد معاً أو يخالف أحدهما لا يدخل في حقيقة الصدق، بل يندرج تحت اسم الكذبِ، والكذبُ ذو ضروب وألوان.
للصدق صورة واحدة: وهى أن تصوغ القول على نحو ما تعتقد، ويكون اعتقادك مطابقاً للواقع، كأن تقول وأنت الناصح الغيور: سلطة العدو أَمرُّ من الصبر، وأشدُّ مضاضة من وقع الحسام.
وللكذب ثلاث صور: (إحداها) ما يخالف الواقع والاعتقاد: كمن يتملق فاسقاً أو باغياً؛ فيصفه بالاستقامة، وهو على بينة من سيرته المغضوب عليها.
(ثانيتها): ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع: كالزائغ المنافق ينطق على نحو مما ينطق به أولوا الحكمة والهداية.
(ثالثها): ما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد: كالغبي يعتقد بعض صلاح الفجار، فيصفه بالولاية أو التقوى.
هذه صورة الكذب في مجاري كلام العرب، وقد رأيتموها ممثلة في المتملق، والمنافق، والغبي.
والذي يرجع عيبُه إلى الأخلاق العملية من هذه الصور ما جاء الحديث فيه مخالفاً للاعتقاد، وسواء بعد هذه أخالف الواقع أيضاً وهي الصورة الأولى أم كان مطابقاً للواقع وهي الصورة الثانية.
وبيان هذا أن الباحث في الأخلاق العملية يوجه عنايته إلى نفس المتكلم حين إلقائه الحديث، وينظر إلى اعتقاده وما بينه وبين الحديث من مطابقة أو مخالفة، فإن وجد الرجل يسوق الحديث على غير ما يعتقد وضع عليه اسم الكذب وعده في حملة هذه الرذيلة الساقطة ولو اتفق لحديثه أن كان مطابقاً للواقع.
وإن وجده يتلقى الحديث على نحو ما يعتقد لا يعده في أصحاب رذيلة الكذب، وإن لم يجئ حديثه موافقاً للواقع.
وهذا الذي تَحَّدث عن اعتقاده، وجاء حديثه مخالفاً للواقع لا يرميه الباحثون في الأخلاق بِسُبِّة الكذب، وقد يؤاخذ من جهة أخرى، وهي انقياده إلى الظنون الواهيةِ، وحديثه عن الأمر قبل التثبت من أنه حقيقة واقعة.
فالكذب في إطلاق علماء الأخلاق ينصرف إلى من يحدثك بالأمر وهو يعتقد أنه غير واقعٍ، ومعظمُ ما ورد في الشريعة من ذم الكذب محمول على أولئك الذين تنطق عليك ألسنتهم بأشياء يزعمون أنها واقعة وقلوبهم تنكرها.
الاحتراس في صدق اللهجة:
يحدثك الرجل عن أشياء يحس بها في نفسه، كالحب والبغض والعطش والري، ويحدثك عن أمور يدركها بَمَحَّساته الخمس: البصر والسمع... وغيرهما.
وهو فيما يدركه بإحساسه الباطن أو إحساسه الظاهر يستطيع أن لا يحدثك إلا بما يطابق الواقع والاعتقاد؛ فالرجل الصادق لا يقول: "أحببت" وهو يبغض، ولا يقول: "سمعت" أو "رأيت" إلا إذا سمع أو رأى.
وقد يحدثك عن حادثة تلقَّى خبرها عن طريق الرواية، أو يحدثك عن أمر أدركه على وجه النظر والاستدلال.
وهذان الصنفان هما ما يعثران به في مخالفة الواقع أحياناً، وينزلان به إلى أن تحوم حوله الظنون؛ فعلى صادق اللهجة أن يحترس فيهما يتحدث به عن رواية، أو يتحدث به عن ظن واستنباط.
والاحتراس في الأخبار التي تجئ من طريق الرواية أن لا يحدث بها قبل أن ينقدها نقداً بالغاً، وإن بدا له أن يخبر بها على نحو ما سمعها فليذكر أسماء رواتها؛ حتى يبرأ من عُهدتها.
والاحتراس في الحديث الذي يستند فيه إلى ظن وأمارة أن لا يطرحه إلى الناس في صورة المقطوع به، بل ينبه على أنه تحدث به على وجه الظن، كما يصنع كثير من الملأ الذين يعافون الكذب، ويريدون أن يجعلوا بينه وبين ألسنتهم حجاباً مستوراً.
فسياجُ صدقِ اللهجةِ الاحتراسُ في الحديث المستند إلى رواية أو ظن، ومن حدثك بما علم واحترس فيما روى أو ظن فقد قضى حق فضيلة الصدق، ووفّى.
صدق اللهجة والمجاز:
لا يخرج عن حدود الصدق ما يجري على ألسنة البلغاء من ضروب الكناية وفنون المجاز، كأن تقول لشخص: جئتك ألف مرة، تكنى بالألف عن كثرة التردد، ولا تريد بها عدد المرار، وكأن تقول: رأيت أسداً مخلَبُهُ الحسامُ، وأنت تريد بطلاً لا يلوي جبينه عن منازلة الأقران.
وقد جاء في كتب الأصول أن قوماً منعوا أن يكون في القرآن مجاز، وهم الظاهرية، ولا شبهة لهؤلاء، إلا زعمهم أن المجاز من قبيل الكذب، والقرآن قول فصل وما هو بالهزل، وهذه الشبهة مدفوعة بقيام القرينة الدالة على أن المتكلم لا يقصد سوى معنى المجاز.
وإذا كان قوله -تعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يحتوى قرينة تنفي أن يكون المرادُ من الظلماتِ سوادَ الليل، ومن النور بياضَ الشمس والقمر والسراج لم يكن هناك إخبار بما يخالف الواقع أو الاعتقاد حتى يتناوله اسم الكذب الذي لا يحوم على كتاب الله في الحال، وإنما الكذب ذلك الإغراقُ أو الغلو الذي يضعه الشاعر خيالاً بحتاً، كقول بعضهم:
ليس ذا الدمع دمع عيني ولكن *** هي نفسي تذيبها أنفاسي
وقول الآخر:
وأَخَفْتَ أهلَ الشركِ حتى أنه *** لتخافُك النطفُ التي لم تُخْلقِ
صدق اللهجة والقصص الخيالية ضروب:
القصص الخيالية ضروب:
أحدها: ما يحكى على ألسنة الجماد أو الحيوان كقصة كليلة ودمنة.
ثانيها: ما يحكى على ألسنة ذوى نفوس ناطقة، ويدل المتكلم بالقرينة أو بالصريح من القول على أنه اخترعها؛ لتكون مأخذ عبرة أو أدب لغة، كما صنع أبو القاسم الحريري في مقاماته.
وهذان الضربان من قبيل الإخبار بما يخالف الواقع والاعتقاد، والذي يستر عيب الكذب هنا أن المتكلم لم يوقع المخاطب في غلط وسوء تصور، وإنما يعرض عليه حكمةً أو أدبَ لغةٍ في أسلوب طريف.
ثالثها: ما يحكيه الرجل على ألسنة ذوى نفوس ناطقة، ولا ينبه على أن القصة غير واقعة، وهذه أيضاً خارجة عن حد الصدق إلى مكان بعيد، ولو كان الداعي إلى وضعها ما تحتويه من عبرة أو أدب لغة.
فالذين يزعمون أن في القرآن قصصاً غير واقعة، وأنها سبقت لما تحتويه من موعظة لا يريدون إلا أن يطعنوا في القرآن، ويخادعوا المؤمنين، والمؤمنون لا يخدعون.
صدق اللهجة وإخلاف الوعد:
الوعد أخبار عما ستفعله في المستقبل من إحسان، والصدق والكذب يجريان في الأخبار المستقبلة كما يجريان في الأخبار الماضية.
وقد وصف الله -تعالى- إسماعيل -عليه السلام- بصدق الوعد أوفائه بما يعد فقال: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً).
وإذا كان الوفاء بالوعد يجعله صادقاً فإخلافه يجعله كاذباً لا محالة.
وقد اختلف أهل العلم بعد هذا في لزوم الوفاء بالوعد، فذهبت طائفة إلى أن من وعد شخصاً بإحسان وجب عليه إنجاز ما وعد، وقضى عليه بأدائه.
وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه-، ورجحه أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي فقال: "والصحيح لزوم الوعد، وُخْلفَه كذب ونفاق".
وذهب طائفة أخرى إلى أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق، وأن صاحبه يملك الرجوع عنه، وإذا بدا له أن يرجع فليس للقاضي عليه من سبيل.
وذهب جماعة من فقهاء المالكية إلى تفصيل، وهو أن الوعد المطلق غير لازم، وأما الوعد المنوط بسبب فإنه يصير بمنزلة الدَّين الذي لا مناص له من قضائه، ومثال هذا: أن تقول لشخص: تزوج وأنا أدفع المهر، فإذا تزوج كان للحاكم أن يقضي عليك بدفع المهر قضاءً نافذاً.
صدق اللهجة وإخلاف الوعيد:
الوعيد إخبار عما ستفعله من شر؛ فإخلافه يجعله كالوعد المخلف قولاً كاذباً.
والرجل الذي يوعد آخر، ثم يضرب عنه عفواً إنما يمدح من جهة أن مصلحة إخلاف الوعيد أرجح من مصلحة إنفاذه؛ ففضيلة العفو تغمر عيب الكذب، وتجعله في نظر الأخلاق شيئاً منسياً.
ولتضاؤل نقص الكذب تحت عظم فضيلة العفو ساغ للإنسان أن يتمدح بإخلاف الوعيد الذي يقول:
وإني إن أوعدته أو وعدته *** لأخلف إيعادي وأنجز موعدي
ولا شك أن من يقرن الوعيد بنحو المشيئة يحميه أن يجعل إخلافه كذباً.
ولكن الوعيد شأنه أن يصدر في حال غضب لا يملك صاحبه النظر إلى العواقب؛ فهو لا يكاد يلفظ به إلا بعد عزم وتصميم.
صدق اللهجة والمعاريض:
في هذه الحياة بلاء، وأشد بلائها ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلة؛ فقد يلاقي الإنسان حالاً ترغمه على أن ينطق بما يكره، ويسلك في القول ما لم يألف.
ولو وقف علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلباً جامداً لضاقت سبيله، ووجد بعضُ النفوس للخروج على أمره عذراً بيناً.
وقد وجدنا علمَ مكارم الأخلاق الذي رفع الإسلام قواعده فسيحَ الصدرِ بمقدار ما يسع مقتضياتِ الحياةِ الفاضلة.
فصدق اللهجة يعد من الفضائل؛ نظراً إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح ودرء المفاسد، ولو عرضت على وجه الندرة حالٌ يكون حديثُ الرجل فيها على نحو ما يعلم جالباً عليه أو على غيره ضرراً فاحشاً لوجد في قانون الأخلاق مرونةً تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضرراً.
فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمر واقع، ولم يكن بدّ من أن يقول في شأنه شيئاً، فها هنا يفسح له بمقتضى قانون الأخلاق الذي أتقن الإسلام صنعه أن يأخذ بالمعاريض، وهي ألفاظ محتملة لمعنيين يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلم منها معنى آخر.
وإذا شئت فقل: هي ألفاظ ذات وجهين: أحدهما: غير حقيقة وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب، وثانيهما: حقيقة وهو ما يقصد المتكلم، ويحق لك أن تسمى اللفظ من أجله حديثاً صادقاً.
وهذا ما يفعله الذين أُشْرِبوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجاً أو خطراً.
ومما يساق مثلاً لهذا: أن أبا بكرٍ الصديقَ –رضي الله عنه- كان يُسْأَلُ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة وهو يريد كتم أمره فيقول: "هذا يهديني السبيل".
ويريد أبو بكر من السبيلِ سبيلَ الخير والسعادة، ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون.
وما كانوا يرضون عن الحديث ذي الوجهين إذا عمد إليه الرجل لغرض غير صالح، قال عبد الله بن عقبة: "دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز، فخرجت وعلي ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين، فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي: يا بني اتق الكذب وما أشبهه"؛ نهاه عقبه عن إجابة السائلين بقوله: "جزى الله أمير المؤمنين خيراً"؛ لأنه يلقي في أذهانهم أن الخليفة هو الذي خلع عليه هذا الثوب، ولا داعي له إلى أن يجيبهم بهذه الجملة التي يتبادر منها غير الواقع سوى قصد الفخرِ، والفخرُ بإصابة حظوة عند الأمراء ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز لا يحسب في الأغراض المحمودة حتى يحل للرجل أن يرتكب له حديثاً ذا وجهين.
عنى الإسلام بصدق اللهجة جهد العناية، ويريد مع هذا للأمة إخاءً وائتلافاً يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويريد لجيشها الفوز على الأعداء يهاجمون أن يتحفزوا، ويرغب في أن يكون الزوجان على وفاق وحياتهما في نظام؛ لهذا خفف المصطفى -صلوات الله عليه وسلامه- في الكلمة يقولها الرجل ليطفئ عداوة استمرت بين طائفتين، أو يقولها في حرب؛ ليكفي قومه قارعةَ تسلطِ الأعداء، أو ليسكت غضب زوجته الصالحة.
وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في تأويل الحديث إلى أنه أذن في المعاريض، فذكر هذا الحديث الذي يروى في استثناء الحرب، والإصلاح، وإسكات غضب الزوجة، ثم قال: "ولكن ذلك بالمعاريض وهي الألفاظ التي يفهم منها السامع خلاف ما يريد القائل، فهذا هو المأذون فيه".
أثر صدق اللهجة في سعادة الفرد:
يتحلى الإنسان بأدب الصدق، فيشرف قدره، وتطيب حياته، ويصفو باله.
أما الشرف فلأن الصدق يدل على نقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية.
وقد جاء في حديثِ أكملِ الخليقةِ ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصحبها إلى حسنات، وأن الكذب سيئة تنجر به إلى السيئات، قال المصطفى -صلوات الله عليه وسلامه- فيما رواه الإمام البخاري: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا)).
ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة إلا حيث يهبهُ الله لساناً صادقاً.
وإذا ابتغى بالكذب منزلة فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة، أو طائفة تؤثر اللهو على الجد ويشغلها الخداع عن النصيحة.
وأما طيب العيش فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير وقع، وقد يحرص التاجر أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمه غير صادقة، فإذا هو يضيع سمعة طيبة، وربحاً وافراً.
ومن الشاهد: أن الصدق يكسب الرجل وقاراً، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين.
واحترامُ الناس للرجل مما يدعوهم إلى النصح في صحبته، وإذا وضع بين أيديهم شأناً من شؤونه الحيوية قاموا عليه بإخلاص.
وأما صفاء البال فمن ناحيتين:
أولاهما: أن مرتكب الرذيلة لا بدّ أن يحس بوخز في ضميره، ويسمى توبيخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائل؛ فوخزه في الضمير غير يسير، ومتى سار الإنسان في طرق الصدق، وأقام بينه وبين الكذب حصناً مانعاً عاش في صفاء خاطر، وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل.
أخراهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب لا بدّ من أن تبدوَ سريرته، ويجرَّ عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراءً، وربما رموه بالتوبيخ في وجهه.
أما صادق القول فإنه يظل ضافي الكرامة آمناً من مثل هذا الخطاب المشين.
أثر صدق اللهجة في سعادة الجماعة:
تسعد الجماعة، وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق؛ فالمعاملات كالبيع، والإجارة، والقرض، والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.
والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق اللهجة حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلةَ إلى مزاحمتها في نحو التجارة والصناعة.
والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق اللهجة.
وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقاً حميماً.
فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللاً وفساداً؛ فالكذاب لا يعد عضواً أشلَّ فقط، وإنما هو عضو يحمل دماً مسموماً لا يلبث أن يسريَ إلى الأعضاء المتصلة به، فيؤذِيَها.
أثر صدق اللهجة في العلم:
يمرق الرجل من فضيلة الصدق على طريق شتى، وأبعد هذه الطرق ضلالاً أن يتحدث في العلم بما ليس من العلم، أو يضيف إلى أحد قولاً لم يصدر عنه، يفعل هذا من يرغب في التفوق على قرين ينافسه، أو يرغب في أن تطير له سمعةً أعلى من منزلته.
ومن يحاول التفوق على قرينه بزخرف من الباطل فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى.
ومن رضي بأن تكون سمعته فوق منزلته فإن وراء السمعة عقولاً تزن الرجال بالآثار؛ فلا يَدَعُون السمعةَ تغلو في طيرانها، بل يأخذون بناصيتها، ويهبطون بها إلى أن تكون مع منزلة صاحبها على سواء.
ولو أيقن أولئك الذين يدسون في العلم ما ليس من العلم أن من حولهم بصائرَ نافذةً وأقلاماً ناقدةً لما انسلخوا من لباس الصدق، ولكنهم قوم لا يوقنون.
يتحدث العالم في غير صدق، فتذهب الثقة به من القلوب، ويذهب معها شطر علمه وهو ما يرجع إلى النقل والرواية.
وكم من مُنتمٍ إلى العلم اطلعوا له على اصطناعه خبراً؛ فطرحوه من حساب الموثوق بنقلهم، وكذلك الرجل يخرج عن أدب الصدق مرة، فيتعدى شؤم الكذب إلى سائر أقواله، فتوشك أن تذهب كما يذهب هذيان المُبَرْسَمِين هزوًا.
كذبت ومن يكذب فإن جزاءه *** إذا ما أتى بالصدق أن لا يُصَدَّقا
علل التهاون بصدق اللهجة:
ينحرف الرجل في حديثه عن قصد السبيل لدواعٍ مقبوحةٍٍ، ومآربً دنيئة.
وليس في وسعنا ذكر هذه الدواعي والمآرب، وإنما نسوق منها أمثلة تريكم أن من لا يَقْدُر قيمة الصدق قد يبيعه بثمن بخسٍ، وكلُّ ما يرضى به ثمناً للصدق فهو بخس ولو حثوا له من هذه الصفراء والبيضاء ما لا يأتي عليه حساب.
ينحرف الرجل عن الصدق؛ ليتملق ذا مقام وجيه، ولا يتزلف إلى ذوى المقام الوجيهة بقول الزور إلا من صَغُرتْ، نفسه وضاق عليه مجال القول الصائب الحكيم.
نحن نعلم أن بعض ذوي المناصب قد مُسِخَتْ فطرهم؛ فلا يرضون عمن يجلس إليهم إلا أن يدخل عليهم من باب التملق والنفاق، ونعلم مع هذا أن كرم الأخلاق يدعوك إلى أن ترعى حرية ضميرك، وتحافظ على صدق لهجتك؛ فأجب داعيَه، وذر الذين يحبون أن تشيع فاحشة في الأمة؛ فإنهم قوم لا يفقهون.
ينحرف الرجل عن الصدق؛ لَيُغْرِبَ عند الناس، ويريهم أنه صاحب سمر؛ حتى يخف عليهم ظله، ويرغبوا في منادمته.
وإنما يفعل هذا من يحرص على أن يغشى كل منزل، وتتمَّ به حلقة كل مجتمع. أما من يبتغي الحياة الزاهرة الشريفة فيتقلد فضيلة الصدق في كل حال، ثم لا يوالي إلا أولي الجد، ولا يبذل خطواتِه إلا حيث تحترم الحقيقة والفضيلة.
وقد ينطوي بعض الناس على عداوة الشخص، فيرميه بمساوئ؛ ليصرف عنه القلوب، ويُسْقِطَ مهابتَه من العيون.
ولا أشأم على الرجل من أن يناضل عدوه بالهتان.
ومن كانت له حاجه في أن يؤلم أعداءه فإنه لا يؤلمهم بأشد من احتفاظه بمكارم الأخلاق، ومن أعز هذه المكارم أن يكون حرَّ الضمير، عفيف اللسان.
وفي الناس من إذا أخذ يحدثك في شأنه أو شأن سلفه أذن لقريحته، فيخترع، وأطلق لسانه فيرتع في غير واقع.
والألمعية تشهد بأن الرجل لا يستطيع أن ينال بمثل هذا الحديث ذرة من فخر أو حمد.
وربما قام حديثه هذا شاهداً على أنه لم ينشأ في أدب متين؛ فيطرح نفسه في زراية من حيث يريد أن يرفعها إلى فخار.
ومن لا يؤمن بأن خالق الكون يجازي هذه الألسنة على ما تصنع من تحريف أو تزوير لا يبالي أن يلبس الحقيقة بالباطل، ويصور بلسانه أشياء ليس لها في الواقع من مثال.
ولا يكاد الملحد يحتفظ بصدق القول إلا حين يريد أن يتشبه بذوي المروءة، وحين يخشى افتضاح زوره، ويخشى من افتضاحه ضرراً.
وانظر في قصة أبي سفيان حين استدعاه هرقل في ركب من قريش، وأخذ يسأله في شأن النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ فإنكم تجدون أبا سفيان وهو زعيم قريش يومئذ يقول: "فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عني كذباً لكذبت عليه".
قال أبو سفيان هذا أيام جاهليته وهو سيد قومه.
أما صدق اللهجة القائم على الإيمان فلا يختل نظمه، ولا يختلف غيب صاحبه عن حال علا نيته؛ فمن تصدى جماعة، وعني بأن يجعلهم المثل الأعلى لفضيلة الصدق فليسعَ لأن يكون إيمانهم بالله راسخاً، والإيمان الراسخ مطلع كل فضيلة.
ـــــــــــــــــــ
(*) رسائل الإصلاح (2/ 95 – 105).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق