فضيلة الشيخ : محمد الخضر حسين
سَهْلٌ على الإنسان أن يدرك معنى الفضيلة في صورة مجملة، بل سهل عليه أن يتعرف ما هي الفضائل بتفصيل.
وإنما العُسْر في أخذ النفس بها، والسير في معاملة الناس على قانونها.
وعُسْرُ العمل على الفضيلة مع تصور مفهومها، والشعور بحسن أثرها يجيء من ناحية الشهوات التي قد تطغى؛ فتطمس على البصائر، وتكاد تُحوِّل معرفتها للخير إلى جهالة عمياء.
وقد يؤخذ الدارس للأخلاق من ناحية ضعفه في تطبيق الأعمال على ما تقتضيه أصول المكارم؛ ذلك لأن علم الأخلاق يشرح الفضيلة، ويبين ما بينها وبين الأخلاق الأخرى من صلة، وينبه على ما لها من آثار حميدة، ولا يتعرض لمظاهر الفضيلة مظهراً فمظهراً، ولا لمواضع الأخذ بها موضعاً فموضعاً، بل يكل ذلك إلى اجتهاد الشخص ونباهته.
وحدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة، وهذه الحدود في نفسها واضحة جلية، إلا أن تميز ما يدخل فيها مما هو خارج عنها، يحتاج إلى صفاء فطرة، أو تربية تساس بها النفوس شيئاً فشيئاً.
وكثيراً ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمور، فلا يدري أهي داخلة في الفضيلة أم هي خارجة عن حدودها، وربما سبق ظنه إلى غير صواب، فيخال ما هو من قبيل الفضيلة مكروهاً فيدعه، أو يعيب غيره به، أو يخال ما هو من قبيل المكروه فضيلة فيرتكبه، أو يمدح غيره عليه.
وهذا الشأن يجري في خلقي العزة والتواضع.
فعزة النفس تمتاز في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى؛ إذ العزة ارتفاع النفس عن مواضع المهانة، والكبرياء استنكاف النفس أن تأتي صالحاً؛ بِتَخَيُّلِ أن ذلك العمل لا يليق بمنزلتها، أو تعظُّمها عن أن تجامل ذا نفس زكية؛ بزعم أَنه غيرُ كفءٍ لها.
ويقابل العزة الضعة، وهي إن انحدار النفس في هُوَّة المهانة، ويقابل الكبرياء التواضع، وهو إذعانها للحق ونظرها إلى ذي النفس الزاكية أو المستعدة لأن تكون زاكية نظر احترام أو عطف وإشفاق.
والفرق بين حقائق هذه الأخلاق سهل المأخذ، ولا يكاد يخفى أمره على عامة الناس فضلاً عن خواصهم، ولكن أحوالاً تعرض للرجل؛ فيخفي فيها الوجه الذي يدعو إلى مظهر الرفعة، فيُعد مستكبراً، أو يخفي فيها الوجه الذي يدعو إلى التواضع، فيعد صاغراً.
وفى الناس من عد التواضع ذلة *** وعد اعتزاز النفس من جهله كبرا
وقال رجل للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً، فقال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا قوله - تعالى -: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).
وقال عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس لابنه المنذر: "إن فيك لتهياً مفرطاً، وإن العيون تَمُجُّ التَيَّاه، والقلوب تنفر عنه، فقال المنذر: إن لهذا السلطان رونقاً يريقه التبذل، وعلواً يخفضه الانبساط، ولايصونه إلا التيه والانقباض".
ثم ذكر أناساً يعدون تواضع الرجل صغراً، وتَخَفُّضَه خسةً، فقال له عبد الرحمن: ابق وما رأيت.
فوزن المعاملات الخاصة وإلحاقها بإحدى خصلتي العزة أو التواضع، أو طرحها إلى الكبرياء أو المهانة يرجع إلى اجتهاد الشخص نفسه.
وهذا لا يمنع غيره الذي عرف من سر المعاملة ما عرف من علانيتها أن ينقدهم، ويصف صاحبها بأنه عزيز النفس أو متواضع، أو يحكم عليه بأنه متكبر أو متصاغر.
في عزة النفس فوائد تعود على الشخص نفسه، منها ارتياح ضميره، وسلامته من ألم الهوان الذي يلاقيه من لا يحتفظ بكرامته، ثم ما يلقيه هذا الخلق على صاحبه من مهابة ووقار، وإحرازِ مكانةِ احترامٍ في النفوس مما تنشرح له صدور العظماء.
وإنما عيب الرجل في أن يجعل هذه المكانة غايته المنشودة، أو يتخذها حِبَالَةً لاصطياد مآرب لا يتعداه نفعها.
ولهذه الخصلة آثار صالحة في الاجتماع؛ فإن الأمة التي تشرب في نفوسها العزة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشئونها، غنية عن أمم من غيرها، وتبالغ في الحذر من أَنْ تقعَ في يَدِ مَنْ يطعن في نحر كرامتها، ولا يستحيي الإنسانيةَ أن تراه مهتضماً لحقوقها.
ومن عناية الإسلام بأدب العزة أنه بنى كثيراً من أحكامه العملية على رعايتها، كما منع القادر على الكسب من بسط كفه للاستجداء إذ كان في استجدائه إراقة لماء وجهه بين يدي من تكون يده هي العليا.
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله، فيسأله أعطاه أو منعه)).
وسن الهجرة من بلد لا يرفع فيها الإسلام لواءه إلى بلد تخفق عليه رايته وتقام فيه أحكام شريعته، قال تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).
وشرع الذود عن الأوطان وحمايتها من أن يكون للخصوم عليها سيطرة؛ إذ لا نصيب لجماعة المسلمين من سيطرة غير المسلم إلا العسف والإرهاق.
ومن الأحكام القائمة على رعاية العزة، أن التبرعات لا تتقرر إلا بقبول المتبرع له؛ فلو وهب شخص لآخر مالاً لم تنعقد الهبة إلا أن يقبلها الموهوب له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منّتها، والمنة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذوو المروآت إلا في حال الضرورة، ولاسيما مِنَّة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
والعلماء الذين كانوا لا يقبلون عطايا ولاة الأمور يريدون الاحتفاظ بكامل عزتهم؛ حتى يكون موقفهم في وعظ أولئك الولاة إذا حادوا عن الرشد موقف الناصح الأمين.
ومن هذه الأحكام شرط الكفاءة في النكاح؛ ذلك لأن في تزوج الرفيعة بمن هو دونها امتهاناً لقدرها، وغضاً من كرامة أوليائها؛ فجعل للمرأة وأوليائها الحق في الممانعة من تزويجها بمن لا يكافئها، وإنما اختلف الفقهاء في تحديد الكفاءة، كما هو مقرر في كتب الأحكام.
وقد عَرَفَ الفقهاءُ أن الشريعة تراعي في أحكامها حق العزة، فقالوا: إن المسافر يقبل هبة الماء للوضوء ولا يتيمم؛ إذ لا يُمتن بمقدار ما يتوضأ به من الماء عادة، ولم يلزموه قبول هبة ثمن الماء، وأجازوا له التيمم؛ إذ كان في هبة الثمن منة، والمنة تورث شيئاً من الذلة.
وعلى هذا النحو جرى الإمام الغزالي؛ إذ جعل خشية الإهانة مسقطة لوجوب النهي عن المنكر، وموضع هذا أن يعرف العالم أن نهيه لا يجدي نفعاً، ويزيد على عدم جدواه بأن يسومه أولئك المبطلون أو الفاسقون خسفاً.
أما إذا كان يرجو مما يقوله أو يكتبه فائدة فاحتمال الأذى في سبيل العمل الصالح عزة لا تُطَاولها عزة.
ومدح الإنسان نفسه رعونة، فإذا مسه أحدٌ بازدراء فإن علم الأخلاق يسمح له بأن يذود عن عزته، ويقول كلمة ينبه بها على مكانته.
َوفَدَ أبو الفضل بن شرف إلى المعتصم أحد أمراء الأندلس في زي تظهر عليه البداوة، وأنشد قصيدته التي يقول في طالعها:
مطل الليل بوعد الفلق *** وتشكَّى النجم طول الأرق
فاهتز المعتصم لسماعها طرباً، فحسد أبا الفضل من الحاضرين ابن أخت غانم، وقال له: من أي البوادي أنت؟ فقال أبو الفضل: أنا من الشرف في الدرجة العالية، وإن كانت البادية عليّ بادية، ولا أنكر خالي، ولا أُعَرِّف بحالي؛ فا نقبض ابن أخت غانم خجلاً.
وأما التواضع وهو بذل الاحترام، أو العطف والمجاملة لمن يستحقه فهو خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل من الناس ومودتهم، وهو الطريق الذي يدخل بالشخص في المجتمع، ويكون به عضواً ملتئماً مع سائر الأعضاء التي يتألف منها جسد نسميه الأمة؛ فالتواضع أنجح وسيلة إلى الائتلاف والاتحاد اللذين هما أساس التعاون على مرافق الحياة وجلائل الأعمال.
قال الله تعالى يدعو رسوله الكريم إلى هذا الخلق العظيم: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).
وقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يستكبر الأغبياء؛ ظناً منهم أن في الاستكبار رفعة، والحقيقة أن ابتغاء الرفعة من طريق التواضع أنجح من التوصل إليها بطريق التجبر والغطرسة؛ فالتواضع الحكيم يورث المودة، ومن عمر فؤاده بمودتك امتلأت عينه بمهابتك.
وأحسن مقرونين في عين ناظر *** جلالة قدر في خمول تواضع
قد يراك الرجل وأنت تؤدي حق الاحترام إلى رجل عرفت من كماله ما لم يعرفه، فيعد عملك تصاغراً، ويرمي أمامك أو وراءك بسهم الإنكار.
ولو اطلع على ما بطن من هذه المعاملة كما اطلع على ما ظهر منها لأقام لك بدل الإنكار عذراً.
قَدَّم أبو الفضل بن العميد لأبي بكر بن الخياط نعلَه؛ فعده بعض الحاضرين إفراطاً في التنازل، فقال أبو الفضل: أؤلام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئاً من الطبائع للجاحظ إلا عرف ديوانه، وقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها حتى ينتهي إليه؟!
وكان أبو العباس المبرد عندما يرى أبا بكر الأبهري مقبلاً ينهض قائماً حفاوة وإجلالاً، فخطر على بال بعض أصحابه أنه تجاوز حد التواضع، وأن أبا بكر لا يستحق هذا القدر من الإجلال، وشافَه المبرد بهذا الخاطر، فقال المبرد:
إذا ما رأيناه مقتبلا *** حللنا الحِبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرن قيامي له *** فإن الكريم يجل الكراما
يتواضع الرجل لأقرانه، فلا يصاعر لهم خداً وإن أبى الدهر إسعافهم، ولا يخرج في معاملتهم عن حدود المساواة وإن رزق من المال أو الجاه ما لم يرزقوا، قال البحتري:
وإذا ما الشريف لم يتواضع *** للأخلاء فهو عين الوضيع
ويتواضع الرجل لمن هو دونه في ظاهر هذه الحياة، أو فيما يجري به عرف الناس، كالأستاذ يجامل طالب العلم، والرئيس يجامل المرءوس.
وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الذين أوتوا الحكمة، وسيرة الذين استقاموا على الفضيلة، ما فيه عظة حسنة، وقدوة صالحة.
أما الأستاذ لا يتعاظم على طالب العلم فمن مظاهره الإصغاء إليه عند المناقشة، وإجابته عما سأل في رفق، وتلقي ما يبديه من الفهم بإنصاف، فإن أخطأ نبهه لوجه الخطأ، وإن قال صواباً تقبله منه بارتياح، وارتياح الأستاذ لآثار نجابة الطلاب مما يزيدهم جداً في الطلب، ويشعرهم باستعدادهم لأن يكونوا في النوابغ، وإنما ينبغ الناشئ في العلم متى سطع في نفسه مثل هذا الشعور.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه ولمن علمتموه".
ومن حكم الإمام علي - كرم الله وجهه -: "وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولمن تعلمونه، ولا تكونوا جبابرة العلماء".
وأما الرئيس لا يتعظم على المرءوس فمن مظاهره لين القول في مخاطبته، والعناية بقضاء ما يستطيع من حاجته، والسعي في دفع الأذى عن جانبه.
والرئيس المتواضع يتحامى أن تشهد منه أثراً يدل على أن نفسه تحدثه بأنه أفضل منك إلا مظاهر يسيغها عرفٌ أصبح مألوفاً بين الناس.
روى الإمام مالك: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان في فضله وقدمه ينفخ عام الرمادة (1) النار تحت القدور حتى يخرج الدخان من تحت لحيته".
ذكر هذا مالك لهارون الرشيد، وقال له: إن الناس يرضون منكم بما دون هذا.
ونقرأ في سيرة المظفر الدين صاحب أربل، أنه بنى أربعة ملاجئ للَّزْمنى والعميان، وقرر لهم كل ما يحتاجون إليه في كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه في عصر كل اثنين وخميس، ويدخل على كل واحد في منزله، ويسأله عن حاجته؛ فإحسان مظفر الدين إلى هؤلاء رحمة، ودخوله على كل واحد في نُزُله، وسؤاله عن حاله تواضع.
وصفوة المقال أن العزة ترجع إلى أن يقدر الإنسان قيمة نفسه؛ فلا يوردها إلا الموارد التي تليق بها، والكبر يرجع إلى أن يرى نفسه في منزلة فوق منزلتها؛ فيتراءى في مظاهر يعدها العارفون بكنة حاله اغتراراً وإسرافاً في التقدير.
والضعة ترجع إلى أن يغمط نفسه حقها، ويضعها في مواضع أدنى مما يستحق أن يضعها.
والمتواضع من يعرف قدره، ولا يأبى أن يرسل نفسه في وجوه الخير وما يقتضيه من حسن المعاشرة.
وإذا كان من يحتفظ بالعزة، ولا يصرف وجهه عن التواضع، هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة، ويستطيع أن يخوض في كل مجتمع، ضافي الكرامة، أنيس الملتقى، شديد الثقة بنفسه كان حقاً على من يتولى تربية الناشئ أن يتفقده في كل طور، حتى إذا رأى فيه خمولاً وقلة احتراس من مواقع المهانة أيقظ فيه الشعور بالعزة، والطموح إلى المقامات العلا.
وإذا رأى فيه كبراً عاتياً، وتيهاً مسرفاً خفف من غلوائه، وساسه بالحكمة، حتى يتعلم أن المجد المؤثل لا يقوم إلا على دعائم العزة والتواضع.
ــــــــــــ
* رسائل الإصلاح 1 / 124 130.
(1) الرمادة: الهلكة، سمى به عام جدب وقحط وقع في زمن عمر بن الخطاب لهلاك الناس فيه والأموال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق