بقلم الأستاذ الدكتور : عطية فياض
يحتل التسويق في أية شركة أيًّا كانت مكانةً متميزةً؛ لأهميته ودوره في تصريف منتجاتها وتحقيق الأرباح والعوائد المأمولة، ومن دون هذه الإدارة قد تتوارى هذه الشركة وتنهار، بغض النظر عن قيمة ما تنتجه وأهميته، وتلجأ تلك الإدارة إلى طرق متعددة للتأثير على جمهور المستهلكين، وإقناعهم بالتعامل مع منتجها وتفضيله على المنتجات المنافسة، ومن أكثر هذه الطرق: تقديم الهدايا.
وشركات الأدوية شأنها شأن أية شركة تبحث عن الربح، وتسعى إلى الزبائن، لكنها تختلف عن غيرها من الشركات؛ حيث لا تهتم كثيرًا بالمستهلك الرئيسي (المريض)؛ لأسباب متعددة - ليس هنا مجال تفصيلها-، إنما تركز في تسويقها على همزة الوصل بينها وبين المستهلك (المريض)، وهم الأطباء والصيادلة ومَن في حكمهم من المعاونين والفنيين (مختبرات- أشعة- علاج طبيعي..ونحوها)، وبالتالي تتوجه شركة الأدوية لهذه الفئات بعروضها وهداياها لهم لإقناعهم أو التأثير عليهم؛ لتفضيل منتجها على منتج الشركة المنافسة.
وتتنوع هذه الهدايا وتختلف في قيمتها وغرضها بحسب من تُقدم إليه، فقد تكون قلمًا أو تقويمًا أو طاقم مكتب، أو جهازًا من الأجهزة التي يستعملها الطبيب، أو مرجعًا طبيًّا، أو دعوة لحضور مؤتمر، أو قضاء ليالٍ سياحية في الداخل أو الخارج، وقد يكون راتبًا شهريًّا، أو عمولة محددة بنسبة مئوية؛ لما يقوم الطبيب بتصريفه من أدوية الشركة وأجهزتها الطبية.
ووصولاً للحكم الشرعي لما تقدمه تلك الشركات للأطباء ومَن في حكمهم مما يسمونه هدايا؛ فإننا نقسمها إلى ثلاثة أقسام بحسب القصد منها:
أ - هدايا لا يقصد منها سوى التعريف بالمنتج والتعارف على الطبيب.
ب- هدايا يقصد منها التأثير على الطبيب دون التعاقد معه.
ج- التعاقد مع الطبيب على عمولات وهدايا مقابل تصريف منتج الشركة.
الحالة الأولى: هدايا التعريف بالمنتج:
وغالبًا ما تكون هذه الهدايا أدوات بسيطة في شكلها وتكلفتها كتقويم، أو لعب أطفال، أو ملابس مطبوع عليها اسم المنتج وعلامته، والمقصود منها التعريف بالمنتج والترويج له، ولا يربط ذلك بالتزام مع الطبيب لتصريف كميات معينة من المنتج.
ففي هذه الحالة لا بأس بتقديم هذه الهدايا ولا بأس من قبولها، ويتسامح فيها؛ لما له من فوائد؛ حيث يقف الطبيب على كل جديد في عالم الأدوية، ولأنها يسيرة في قيمتها وثمنها، ويغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها.
الحالة الثانية: هدايا من باب مكافأة الطبيب على تفضيله منتجات الشركة ولاستمراره في ذلك دون التعاقد معه: في هذه الحالة تسعى شركات الأدوية لضمان استمرار الطبيب في تفضيل منتجاتها الطبية دون غيرها من الشركات المنافسة، وغالبًا ما يتم التركيز على الأسماء اللامعة المشهورة في تخصصها، وفي هذه الحالة تزداد قيمة الهدية، وتتكرر الزيارات والاهتمام من قِِبَلِ الشركة، وكلما رأى مندوب الشركة أن الطبيب يُكثر من وصف منتج شركته، وأن المسحوب منه يزداد قدَّم للطبيب ما يسمونه بالهدية مكافأة وتقديرًا لصنيعه.
وهذه الحالة تحتاج إلى تفصيل؛ بسبب الالتباس الذي يقع فيه كلٌّ من مندوب الشركة والطبيب معًا، فالطبيب يدعي النَزَاهَةَ التامة، وأنه لا يمكن أن يتأثر ويخالف أصول المهنة؛ بسبب هدية من مندوب شركة مهما كانت قيمتها، لكنه عندما فضَّل وصف منتجها فما ذلك إلا لأن هذه الشركة قدَّرَته وأرسلت إليه مندوبها بخلاف الشركات الأخرى، وفي نفس الوقت يدعي بأن المنتجات الدوائية المنافسة لها نفس الفاعلية والأثر وربما السعر أيضًا، فلا ظلم للمريض، وبما أن الشركة تستفيد من صنيع الطبيب ولا ظلم على المريض فما المانع إذن، وسواء قدمت له الشركة هدية أم لم تفعل لما اختلف قراره؟
وحتى نعرف الحكم الشرعي لهذه الحالة يلزم الوقوف على حقيقة ما تقدمه شركة الأدوية للطبيب ومن في حكمه؛ هل هو من باب الهدية أم من باب الصدقة والإحسان أم من باب الأجرة أو العمولة على فعل من الطبيب يُدِرُّ على الشركة ربحًا؟
معنى الهدية: ما يعطى للغير على سبيل الإكرام والمودة بلا عوض، أو مقابل، ويعبر عنها الفقهاء بالهبة وعرفوها بأنها: "تمليك بغير عوض لغير حاجة المُعطَى".
وبالنظر في حقيقة ما تقدمه الشركة إلى الطبيب من أشياء ثمينة لم تَجْرِ العادة بالتهاون فيها؛ ليظل الطبيب وفيًّا لها مفضلاً منتجها، نعرف أنه ليس هدية محضة؛ فالطبيب لو قرر عدم التعامل مع منتج هذه الشركة لقبضت الشركة يدها عنه، ولو لاحظ مندوب الشركة ضعف المبيعات لكان له شأن آخر مع الطبيب؛ إذن فليس هدية وبالطبع ليس من باب الصدقة.
فهل هي عمولة أو أجرة؟ الواقع يقول بأنها أقرب إلى الأجرة وإن لم تتوافر فيها كافة شروطها؛ لأن الأجر هو ما يبذل لقاء منفعة ما سواء سمي عمولة أم هدية أم إكرامية فما دام أنه مقابل منفعة فهو أجر، والطبيب لا شك يفيد الشركة بتكثير مبيعاتها وتعظيم ربحها، ومن ثم فهو يُكافأ من قِبَلِها بهذا المال.
لكن هل هناك مانع شرعي يمنع الطبيب من تقاضي هذا الأجر مقابل إفادته الشركة، ويعمل الطبيب لمصلحة شركة الأدوية والمريض معًا، وهل هناك ما يمنع الشركة شرعًا من تقديم هذه العمولة أو الهدية للطبيب مقابل خدماته لها؟
الأصل أن الطبيب يعمل لمصلحة المريض لقاء أجر، ويثق فيه المريض ثقةً كاملةً، وقد تكون مصلحة المريض في منتج هذه الشركة وقد لا تكون، والمصلحة هنا فاعلية الدواء في علاج ما بالمريض من داء، وتقليل آثاره الجانبية، وأيضًا مناسبته لحالة المريض المادية، ومن هنا قد يحصل تعارض بين المصلحتين ويقع الطبيب في حرج فيما لو ظهر أن منتجًا آخر أصلح للمريض هل يقدم مصلحة مريضه الذي دفع له أجرة مقابل معالجته، أم مصلحة الشركة التي قدمت له الهدايا تلو الهدايا مقابل تفضيله لمنتجها؟ وقد ينتصر على نفسه مرة أو تنتصر نفسه عليه مرات فيقع المحظور وهو خيانة الأمانة مع هذا المريض، ومخالفة أصول المهنة التي تقتضي وتوجب عليه بذل عنايته لهذا المريض؛ ولذلك تصبح هذه الهدايا بابًا لإفساد ذمة الطبيب، ومخالفته لكافة الأعراف المهنية وخيانته للأمانة الملقاة على عاتقه تجاه المريض، وينبغي ألا يبالغ الطبيب في ثقته بنفسه، فهو إن اقتحم باب الشبهات كان ولا شك واقعًا فيها.
وعلى فرض أن منتج هذه الشركة هو الأصلح للمريض من غيرها؛ فما وجه ما تقدمه الشركة من هدايا؟ لا وجه إلا ضمان كون هذا الطبيب عميلاً من عملائها، يعمل لحسابها لا لحساب مرضاه، ويندر أن تتفق مصلحة المرضى ومصلحة شركات الأدوية، والواقع خير شاهد على ما نقول.
شبهة والرد عليها:
قد يدعي بعض الأطباء إلى أن ما يأخذه من شركات الأدوية بغير تعاقد معهم من باب المكافأة على المعروف الذي صنعه الطبيب للشركة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه))، والجواب: أن هذا الحديث يصدق فيما لو لم يترتب على المكافأة إفساد للذمم؛ ولذلك أخرج الفقهاء بالإجماع من هذا الحديث الهدية للقاضي سواء بعد الحكم أم قبله أم أثناءه حتى ولو أن القاضي ما التفت إلى الهدية، ولكنه أصدر حكمه المبني على قواعد العدالة المعتبرة، ومع ذلك فقبوله الهدية رشوة وليست هدية.
وننتهي إلى أن ما تقدمه شركات الأدوية؛ للتأثير على الطبيب وضمان استمراره في تفضيل منتجاتها محظور شرعًا على الشركة والطبيب معًا، وعلى الشركة أن تبذل ما تنفقه على الأطباء في تحسين منتجها، وزيادة مخصصات البحث العلمي لديها فهو أولى وأوجب.
الحالة الثالثة: تقاضي الطبيب لعمولة مقابل تصريف كميات معينة من المنتج أو تحويله المرضى لإجراء فحوصات وأشعة:
وهذه الحالة هي ثالثة الأثافي، وفيها يخالف الطبيب أصول مهنته وضميره ودينه، ويتحول من كونه طبيبًا دوره أن يرفق بالمريض ويخفف عنه معاناته إلى إنسان جشع دفعه طمعه أن يتربح من معاناة المرضى دون وجه حق، فيزيد ألمهم ويشق عليهم فيصف لهم ما لا حاجة لهم فيه، وربما ما فيه ضرر بالغ وفادح عليهم، أو لا جدوى منه، ويطلب منهم فحوصات لا داعي منها إلا زيادة نسبته وعمولته، فله على كل حالة نسبة مئوية، وقد يكون المختبر خاصًّا به أو بزوجته وغير ذلك؛ ما يضيق المقام عن وصفه ويندى له الجبين.
وهذه الحالة ليست في ميزان الشرع مجرد مخالفة لأصول المهنة إنما هي كبيرة من الكبائر؛ وذلك لما يلي:
أولاً: يدفع هذا الصنيع شركات الأدوية إلى الغش والإهمال في تحسين وتطوير منتجاتها الطبية، معتمدة في تسويقها على ما تعطيه للأطباء، ويخل بقواعد المنافسة المعتبرة شرعًا المبنية على بقاء الأحسن والأصلح والأجدى، وكل من الغش والإهمال حرام شرعًا.
ثانيًا: تضرُّ كثير من منتجات هذه الشركات التي تلجأ لهذا الصنيع مع الأطباء بالمرضى، وقد يؤدي إلى وفاة بعضهم بتأثير هذا الدواء أو بسبب إجراء طبي ما، وإضرار الغير وإيذاؤه حرام شرعًا.
ثالثًا: قد يصف الطبيب دواءً أو يطلب إجراءً طبيًّا لا فائدة منه ولا جدوى للمريض، ومن هنا يصبح ما يدفعه المريض مقابل ذلك مالاً مهدرًا، وفي حق الشركة والطبيب من باب أكل أموال الناس بالباطل وكل ذلك حرام شرعًا.
رابعًا: في هذا الصنيع خيانة من الطبيب لمرضاه الذين يثقون فيه ثقةً مطلقة، وخيانةً من الشركة لجمهور المستهلكين إذ تُقدم لهم بيانات مكذوبة ومغلوطة وكل من الكذب والخيانة حرام شرعًا.
حيل شركات الأدوية للالتفاف على الأطباء:
تتفتق أذهان شركات الأدوية في ابتكار طرق وأساليب لخداع جمهور الأطباء، فبدلاً من تقديم أموال نقدية مما يتحرج بعض الأطباء من قبولها، تقدم لهم مراجع طبية، أو قضاء ليالٍ سياحية في منتجعات وفنادق فاخرة، أو تقيم مؤتمرات ظاهرها العلمية وباطنها غير ذلك، وتدعو من تريد التعامل معهم، أو التأثير عليهم أو مكافأة مَن يعمل معها.
وكل ما تقدم لا يختلف حكمه عن الصورة التقليدية لتقديم الهدايا، فإذا رغبت الشركة في إقامة مؤتمر علمي أو إفادة الأطباء بالمراجع العلمية الطبية المعتبرة التي لا يستطيع الطبيب الحصول عليها؛ فهذا أمر جيد وحسن إن كان الغرض منه تطوير منتجها الدوائي، أو خدمة أغراض البحث العلمي؛ لكن إن انحرف القصد ليكون بابًا من أبواب شراء ذمم الأطباء وقرارهم أو مكافأة على ما قدموه للشركة؛ فيكون منكرًا من القول وزورًا.
هذا والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق