بقلم د. أيمن صالح
فعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: (( قال النبي ، صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي لم يُرد منا ذلك فذُكر ذلك للنبي ، صلى الله عليه وسلم، فلم يعنِّف واحداً منهم)) [متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري]
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله [الفتح 7/473]: "قال السُّهيلي وغيرُه: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النَّص معنى يخصِّصُه"
وقال ابن القيم، رحمه الله [إعلام الموقعين 1/203]: "وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي ، صلى الله عليه وسلم، في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس".
حاصل اجتهاد الصحابة الذي صلوا في الطريق أنه تخصيص لعموم النص بالعلة، وذلك أن قوله ، صلى الله عليه وسلم: (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )) نهيٌ يعمُّ جميعَ المخاطبين به في جميع الأحوال، سواءٌ خِيف فوات وقت الصلاة أم لا، ولكنْ بعدَ أن وَقَفَ الصحابة على علة هذا النهي خصَّصُوا بها هذا العموم فأخرجوا منه حالةَ ما إِذا خُشِيَ فواتُ الوقت، فكأنَّ النهي بعد فهْمِ العلة صار كالتالي: لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت.
ومن ثَمَّ أَقَرَّ النبي ، صلى الله عليه وسلم، أصحابَه على هذا الاجتهاد فكان دليلاً على جواز أن يُستنبطَ من النص معنى يخصِّصُهُ، كما قاله السهيلي، رحمه الله.
لكن بقي هاهنا إشكال، وهو أن هذا الحديث وإن كان دالاً على مشروعية اتباع العلل والمعاني، وإن خالفت ظاهرَ اللفظ، فإنه دال في الوقت نفسه على مشروعية اتِّباع الظاهر وإن عارضته العلة. ومن المقرَّر أن المجتهد حين نظره إلى النص ينبغي أن لا يُغفل الظنَّ الحاصل من العلة، ويقتصر على الظَّاهِرِ فَحَسب لا سيما إذا كانت العلة واضحةً جَليةً كما هو الشأن في هذا الحديث.
فهل في هذا الحديث دليلٌ على جواز اتِّباع الظاهر بإطلاق كما يفعله الظاهرية؟
والجواب على هذا الإشكال هو أنَّ ظاهر النص بالنظر إلى العلة يُتبَّعُ في حالات وهي:
وبناءً على هذا التفصيل يمكن تخريج اجتهاد الصحابة الذين أخَّروا الصَّلاة - كما هو في الواقع - ليكون مندرجاً ضمن الحالات التي يتبع فيها الظاهر، وذلك بأن يُقال:
إنَّ الصحابة المؤخِّرين للصلاة إِذِ اتبعوا الظاهر فإنهم ظنُّوهُ مقصوداً للشارع، وتأيَّد ظنُّهم هذا بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، يعلم الطريق إلى بني قريظة، وقدْرَ ما يستغرق قطعُها من الوقت ومستبعدٌ أن يغيب عن خاطره، صلى الله عليه وسلم، أنه سيفوتُهم وقتُ العصر، فلو كان مقصودُه أنْ يُصلُّوا في الطَّريق لَنبَّهَ على ذلك واستدرك قائلاً: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت، وعليه فالظن بأنَّ الظاهرَ مقصودٌ للشارع كان عند هؤلاء الصحابة أقوى من ظنِّ العلة وبناءً على ذلك عملوا بمقتضاه لا بمقتضى العلة.
فسيرهم هذا وراء الظاهر لم يكن نتيجةَ إِهمالٍ للعلِّةِ مُطلقاً كما يفعلة الظَّاهِريَّة، وإنما لأنهم رَأوا أن العِلَّة - وهي محلٌ لاختِلاف التقديرات - لم تبلغ من القوة بحيث تقضي على ظاهر اللفظ.
هذا وجهٌ في التخريج، ووجهٌ آخرُ لعلَّهُ أَصَحُّ:
أنَّ الصحابة المؤخِّرين للصلاة إِذِ اتبَّعوا الظاهر فإنَّهم قد التفتوا إلى العلةِ فتأيَّد لديهم ظاهرُ اللفظِ بموافقته مقتضى العلَّةِ، ووجه ذلك: أن النُّزول للوضوء في الطريق، ومن ثم الصلاة يتطلَّب قدْراً لا بأس به من الوقت، وهذا تأخير يُنافي "الإسراع" الذي هو علَّةُ النص، وبهذا يكون مقتضى العلة من هذا الوجهِ يُوجِبُ تَأخيرَ الصَّلاةِ وعدمَ أدائِها في الطَّريق كما يوجب ذلك ظاهرُ اللفظ.
وإذن، ونظراً لالتِفات هؤلاء الصحابة إلى العلة فليس في هذا الحديث دلالةٌ على جواز إهمال العلَّةِ واتِّباعِ ظاهر اللفظ مُطلقاً كما هو دأب الظاهرية.
فإن قيل: فإذا كان الصحابة المؤخِّرين للصلاة، وكذا المقدِّمين لها قد التفتوا جميعاً إلى العلة فلماذا اختلفت نتيجةُ اجتهادهم؟
فالجواب هو أنَّ الفريقين جميعاً، وإن التفتوا إلى العلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليها بالقدْرِ نفسِهِ، بل كان التفاتُ المؤخِّرين للصلاة إلى العلَّةِ أعمقَ وأقوى، حيث إنَّهم أَبَوا أن يُفَوِّتوا "الإسراع" الذي هو علَّة النص ولو بأداء الصلاة، أما الآخرون فإنهم، وإن التفتوا إلى العلة، إلا أنهم اكتفوا تلبيةً لمقتضاها بِسرعةِ النُّهوض والذَّهاب إلى بني قريظة من غير تَشَاغُلٍ بشيء، ورأوا أن ذلك فقط يحقِّق مقصود النبي، صلى الله عليه وسلم، من قوله، ولم تصل بهم نظرتُهم إلى العلة إلى درجة أن يعتبروا الإسراعَ مَطْلوباً في أثناءِ الطَّريق إلى القَدْرِ الذي ينبغي أن تُتْرك من أَجْلِهِ الصَّلاة على الرَّغْم من أهميتها وضرورتها، وهذا ظاهر في قولهم: "بل نصلي لم يرد منا ذلك" أي أراد منا الإسراع لكن لا إلى درجة ترك الصلاة، وبناء على ذلك صلوا في الطريق وإن كان ذلك مخالفاً لظاهر اللفظ.
هذا ولمَّا كان في هذا الحديث حجةٌ قويةٌ على جواز اتباع مقتضى العلة، وإن عارض مقتضى اللفظ فقد تلبَّك ابن حزم، رحمه الله، في الإجابة عنه وذَكَرَ في تزييف دلاله هذا الحديث على ذلك جواباً ضعيفاً وهو [الإحكام 3/28]: "أنه قد كان تقدم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرٌ في وقت العصر أنه مُذْ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفَّر الشمس، وأن مؤخِّرَها إلى الصُّفْرَةِ بغير عذرٍ يفعل فِعْلَ المنافقين، فاقترن على الصحابة في ذلك أمرانِ واردان، واجبٌ أن يُغلَّب أحدُهما على الآخر ضرورةً، فأَخَذتْ إحدى الطائفتين بالأمر المتقدِّم وأَخَذَتِ الأُخرى بالأمْر المتأخِّر".
وحاصل هذا الجواب أن اختلاف الصحابة في هذه الواقعة لم يكن بسبب اتباع العلة أو اتباع الظاهر وإنما بسبب تعارض الأوامر الشرعية:
ولا يخفى تكلُّفُ هذا الجواب على ذي نَظَر؛ إذ على فرض تسليم التعارض بين الأوامر كما ادَّعاهُ ابن حزم رحمه الله، فإن المتعارِضَيْن عامٌّ مُتقدِّمٌ وخاصٌّ متأخِّرٌ: عامٌّ يأمر بالمحافظة على صلاة العصر بوجه عام وأدائها في وقتها، وخاصٌّ ينهى عن صلاةِ عَصْر مُعينةٍ في يومٍ مُعينٍ لأناسٍ مُعينين، ومن المُحَالِ على الصحابة، وهم أفقه هذه الأمة وأعلمها أن يقدِّموا العامَّ المتقدِّم على الخاصِّ المتأخِّر، لا سيما وقد تَضَافَرت وتتابعت أقوال الأصوليين - حتى ابن حزم - على أنَّ الخاصَّ المتأخِّرَ يقضي على الخاصِّ المتقدِّم [الإحكام 2/22، 4/54] فكيفَ لا يقضي على العام الذي هو أضعف دلالة؟!
وما مَثَلُ من قدَّمَ العامَّ المتقدِّمَ على الخاصِّ المتأخِّرِ إلا كمثل سيِّدٍ قال لغلامه: "لا تُدْخلْ أحداً عليَّ" ثم جاءَه بعد حينٍ وقال له: "إذا جاء زيدٌ فأَدْخِلْهُ"، فجاء زيد فلم يسمح له الغُلامُ بالدخول، فلمَّا بلغ ذلك إلى السَّيِّد قال لغلامه: "لِمَ لمْ تسمحْ لهُ بالدخول، وقد أمرتُك بإدخاله"، فقال الغلام مُجيباً: إنه قد سبق منك أمرٌ لي بعدم إدخالِ أَحَدٍ، وعلى هذا الأمر اعتمدتُّ فقدَّمتُهُ على أمرك المتأخِّر، فهل تستقيمُ عند ذوي العقول حجَّةُ هذا الغلام؟!
والقول بأن اجتهاد الصحابة الذين صلوا في الطريق كان اعتماداً على العام المتقدم ما هو إلا تشبيهٌ لاجتهادهم هذا باجتهاد هذا الغلام.
وفي هذا من التجهيل لهم - رضوان الله عليهم بأبسط قواعد الاجتهاد ـ بل التفكير المنطقي ـ ما فيه؟ فحاشاهم إيَّاه.
نعم، لا يُنكرُ أن الصحابة نظروا إلى العام المتقدِّم الآمِر بأداء الصلاة على وقتها، لكنّ هذا لم يكن إلا بعد أن صرفوا النَّهي الخاصَّ المتأخِّر عن ظاهره بالتعليل، وهذا هو المقصود من الاستدلال بهذا الحديث، وذلك بينٌ واضح - لو تأمَّل ابن حزم - من قولهم في دفع النهي المتأخر "لم يُرِدْ منا ذلك" أي تأخير الصلاة، والله أعلم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين وبعد:
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله [الفتح 7/473]: "قال السُّهيلي وغيرُه: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النَّص معنى يخصِّصُه"
وقال ابن القيم، رحمه الله [إعلام الموقعين 1/203]: "وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي ، صلى الله عليه وسلم، في كثير من الأحكام ولم يعنفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس".
حاصل اجتهاد الصحابة الذي صلوا في الطريق أنه تخصيص لعموم النص بالعلة، وذلك أن قوله ، صلى الله عليه وسلم: (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )) نهيٌ يعمُّ جميعَ المخاطبين به في جميع الأحوال، سواءٌ خِيف فوات وقت الصلاة أم لا، ولكنْ بعدَ أن وَقَفَ الصحابة على علة هذا النهي خصَّصُوا بها هذا العموم فأخرجوا منه حالةَ ما إِذا خُشِيَ فواتُ الوقت، فكأنَّ النهي بعد فهْمِ العلة صار كالتالي: لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت.
ومن ثَمَّ أَقَرَّ النبي ، صلى الله عليه وسلم، أصحابَه على هذا الاجتهاد فكان دليلاً على جواز أن يُستنبطَ من النص معنى يخصِّصُهُ، كما قاله السهيلي، رحمه الله.
لكن بقي هاهنا إشكال، وهو أن هذا الحديث وإن كان دالاً على مشروعية اتباع العلل والمعاني، وإن خالفت ظاهرَ اللفظ، فإنه دال في الوقت نفسه على مشروعية اتِّباع الظاهر وإن عارضته العلة. ومن المقرَّر أن المجتهد حين نظره إلى النص ينبغي أن لا يُغفل الظنَّ الحاصل من العلة، ويقتصر على الظَّاهِرِ فَحَسب لا سيما إذا كانت العلة واضحةً جَليةً كما هو الشأن في هذا الحديث.
فهل في هذا الحديث دليلٌ على جواز اتِّباع الظاهر بإطلاق كما يفعله الظاهرية؟
والجواب على هذا الإشكال هو أنَّ ظاهر النص بالنظر إلى العلة يُتبَّعُ في حالات وهي:
1- إذا توافق مقتضاه مع مقتضى العلة.
2- إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه أقوى من مقتضى العلة.
3- إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه مساوياً لمقتضى العلة.
4- إذا خفيت علة النص ولم يمكن الوقوف عليها.
ويُترك الظاهر بسبب التعليل في حالةٍ واحدةٍ فقط وهي: إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان الظنُّ الحاصلُ من العلة أقوى من الظن الحاصل من ظاهر اللفظ مع احتمال اللفظ للتأويل.2- إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه أقوى من مقتضى العلة.
3- إذا تعارض مقتضاه مع مقتضى العلة وكان مقتضاه مساوياً لمقتضى العلة.
4- إذا خفيت علة النص ولم يمكن الوقوف عليها.
وبناءً على هذا التفصيل يمكن تخريج اجتهاد الصحابة الذين أخَّروا الصَّلاة - كما هو في الواقع - ليكون مندرجاً ضمن الحالات التي يتبع فيها الظاهر، وذلك بأن يُقال:
إنَّ الصحابة المؤخِّرين للصلاة إِذِ اتبعوا الظاهر فإنهم ظنُّوهُ مقصوداً للشارع، وتأيَّد ظنُّهم هذا بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، يعلم الطريق إلى بني قريظة، وقدْرَ ما يستغرق قطعُها من الوقت ومستبعدٌ أن يغيب عن خاطره، صلى الله عليه وسلم، أنه سيفوتُهم وقتُ العصر، فلو كان مقصودُه أنْ يُصلُّوا في الطَّريق لَنبَّهَ على ذلك واستدرك قائلاً: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة إلا أن يخشى فوات الوقت، وعليه فالظن بأنَّ الظاهرَ مقصودٌ للشارع كان عند هؤلاء الصحابة أقوى من ظنِّ العلة وبناءً على ذلك عملوا بمقتضاه لا بمقتضى العلة.
فسيرهم هذا وراء الظاهر لم يكن نتيجةَ إِهمالٍ للعلِّةِ مُطلقاً كما يفعلة الظَّاهِريَّة، وإنما لأنهم رَأوا أن العِلَّة - وهي محلٌ لاختِلاف التقديرات - لم تبلغ من القوة بحيث تقضي على ظاهر اللفظ.
هذا وجهٌ في التخريج، ووجهٌ آخرُ لعلَّهُ أَصَحُّ:
أنَّ الصحابة المؤخِّرين للصلاة إِذِ اتبَّعوا الظاهر فإنَّهم قد التفتوا إلى العلةِ فتأيَّد لديهم ظاهرُ اللفظِ بموافقته مقتضى العلَّةِ، ووجه ذلك: أن النُّزول للوضوء في الطريق، ومن ثم الصلاة يتطلَّب قدْراً لا بأس به من الوقت، وهذا تأخير يُنافي "الإسراع" الذي هو علَّةُ النص، وبهذا يكون مقتضى العلة من هذا الوجهِ يُوجِبُ تَأخيرَ الصَّلاةِ وعدمَ أدائِها في الطَّريق كما يوجب ذلك ظاهرُ اللفظ.
وإذن، ونظراً لالتِفات هؤلاء الصحابة إلى العلة فليس في هذا الحديث دلالةٌ على جواز إهمال العلَّةِ واتِّباعِ ظاهر اللفظ مُطلقاً كما هو دأب الظاهرية.
فإن قيل: فإذا كان الصحابة المؤخِّرين للصلاة، وكذا المقدِّمين لها قد التفتوا جميعاً إلى العلة فلماذا اختلفت نتيجةُ اجتهادهم؟
فالجواب هو أنَّ الفريقين جميعاً، وإن التفتوا إلى العلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليها بالقدْرِ نفسِهِ، بل كان التفاتُ المؤخِّرين للصلاة إلى العلَّةِ أعمقَ وأقوى، حيث إنَّهم أَبَوا أن يُفَوِّتوا "الإسراع" الذي هو علَّة النص ولو بأداء الصلاة، أما الآخرون فإنهم، وإن التفتوا إلى العلة، إلا أنهم اكتفوا تلبيةً لمقتضاها بِسرعةِ النُّهوض والذَّهاب إلى بني قريظة من غير تَشَاغُلٍ بشيء، ورأوا أن ذلك فقط يحقِّق مقصود النبي، صلى الله عليه وسلم، من قوله، ولم تصل بهم نظرتُهم إلى العلة إلى درجة أن يعتبروا الإسراعَ مَطْلوباً في أثناءِ الطَّريق إلى القَدْرِ الذي ينبغي أن تُتْرك من أَجْلِهِ الصَّلاة على الرَّغْم من أهميتها وضرورتها، وهذا ظاهر في قولهم: "بل نصلي لم يرد منا ذلك" أي أراد منا الإسراع لكن لا إلى درجة ترك الصلاة، وبناء على ذلك صلوا في الطريق وإن كان ذلك مخالفاً لظاهر اللفظ.
هذا ولمَّا كان في هذا الحديث حجةٌ قويةٌ على جواز اتباع مقتضى العلة، وإن عارض مقتضى اللفظ فقد تلبَّك ابن حزم، رحمه الله، في الإجابة عنه وذَكَرَ في تزييف دلاله هذا الحديث على ذلك جواباً ضعيفاً وهو [الإحكام 3/28]: "أنه قد كان تقدم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرٌ في وقت العصر أنه مُذْ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفَّر الشمس، وأن مؤخِّرَها إلى الصُّفْرَةِ بغير عذرٍ يفعل فِعْلَ المنافقين، فاقترن على الصحابة في ذلك أمرانِ واردان، واجبٌ أن يُغلَّب أحدُهما على الآخر ضرورةً، فأَخَذتْ إحدى الطائفتين بالأمر المتقدِّم وأَخَذَتِ الأُخرى بالأمْر المتأخِّر".
وحاصل هذا الجواب أن اختلاف الصحابة في هذه الواقعة لم يكن بسبب اتباع العلة أو اتباع الظاهر وإنما بسبب تعارض الأوامر الشرعية:
أحدها: وهو المتقدِّم، يوجب أن تُؤدَّى صلاةُ العصر في وقتها.
والآخر: وهو المتأخِّر، يُوجب أن تُؤدَّى الصلاة في بني قريظة بغضِّ النَّظر عن وقت الأداء.
والخِلاف النَّاشئ بسبب تعارض النصوص يجيزه ابن حزم ولا يُحَرِّجُ فيه، بخلاف الناشئ عن اتباع الرأي والعلل [الإحكام 8/146 وما بعدها].والآخر: وهو المتأخِّر، يُوجب أن تُؤدَّى الصلاة في بني قريظة بغضِّ النَّظر عن وقت الأداء.
ولا يخفى تكلُّفُ هذا الجواب على ذي نَظَر؛ إذ على فرض تسليم التعارض بين الأوامر كما ادَّعاهُ ابن حزم رحمه الله، فإن المتعارِضَيْن عامٌّ مُتقدِّمٌ وخاصٌّ متأخِّرٌ: عامٌّ يأمر بالمحافظة على صلاة العصر بوجه عام وأدائها في وقتها، وخاصٌّ ينهى عن صلاةِ عَصْر مُعينةٍ في يومٍ مُعينٍ لأناسٍ مُعينين، ومن المُحَالِ على الصحابة، وهم أفقه هذه الأمة وأعلمها أن يقدِّموا العامَّ المتقدِّم على الخاصِّ المتأخِّر، لا سيما وقد تَضَافَرت وتتابعت أقوال الأصوليين - حتى ابن حزم - على أنَّ الخاصَّ المتأخِّرَ يقضي على الخاصِّ المتقدِّم [الإحكام 2/22، 4/54] فكيفَ لا يقضي على العام الذي هو أضعف دلالة؟!
وما مَثَلُ من قدَّمَ العامَّ المتقدِّمَ على الخاصِّ المتأخِّرِ إلا كمثل سيِّدٍ قال لغلامه: "لا تُدْخلْ أحداً عليَّ" ثم جاءَه بعد حينٍ وقال له: "إذا جاء زيدٌ فأَدْخِلْهُ"، فجاء زيد فلم يسمح له الغُلامُ بالدخول، فلمَّا بلغ ذلك إلى السَّيِّد قال لغلامه: "لِمَ لمْ تسمحْ لهُ بالدخول، وقد أمرتُك بإدخاله"، فقال الغلام مُجيباً: إنه قد سبق منك أمرٌ لي بعدم إدخالِ أَحَدٍ، وعلى هذا الأمر اعتمدتُّ فقدَّمتُهُ على أمرك المتأخِّر، فهل تستقيمُ عند ذوي العقول حجَّةُ هذا الغلام؟!
والقول بأن اجتهاد الصحابة الذين صلوا في الطريق كان اعتماداً على العام المتقدم ما هو إلا تشبيهٌ لاجتهادهم هذا باجتهاد هذا الغلام.
وفي هذا من التجهيل لهم - رضوان الله عليهم بأبسط قواعد الاجتهاد ـ بل التفكير المنطقي ـ ما فيه؟ فحاشاهم إيَّاه.
نعم، لا يُنكرُ أن الصحابة نظروا إلى العام المتقدِّم الآمِر بأداء الصلاة على وقتها، لكنّ هذا لم يكن إلا بعد أن صرفوا النَّهي الخاصَّ المتأخِّر عن ظاهره بالتعليل، وهذا هو المقصود من الاستدلال بهذا الحديث، وذلك بينٌ واضح - لو تأمَّل ابن حزم - من قولهم في دفع النهي المتأخر "لم يُرِدْ منا ذلك" أي تأخير الصلاة، والله أعلم.
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم معهم وهل صلى متاخرا
ردحذف