الجمعة، 6 يوليو 2012

الأعذار المبيحة للفطر في رمضان

العلامة الشيخ أ.د.وهبة الزحيلي



يباح الفطرلأعذار عديدة أهمها هي ما يأتي :-


1 - السفر:
لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2]
والسفر في عرف اللغة: عبارة عن خروج يُتكلف فيه مؤنة، ويفصل فيه بُعْد في المسافة. ولم يرد فيه من الشارع نص، لكن ورد فيه تنبيه، وهو قوله عليه السلام في الصحيح: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر مسيرة يوم وليلة إلا معها ذو مَحْرم منها».


أـ والسفر المبيح للفطر: هو السفر الطويل الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية وذلك لمسافة تقدر بحوالي 89 كم، وبشرط عند الجمهور : أن ينشئ السفر قبل طلوع الفجر ويصل إلى مكان يبدأ فيه جواز القصر وهو بحيث يترك البيوت وراء ظهره، إذ لا يباح له الفطر بالشروع في السفر بعد ما أصبح صائماً، تغليباً لحكم الحضر على السفر إذا اجتمعا. فإذا شرع بالسفر بأن جاوز عمران بلدة قبل طلوع الفجر، جاز له الإفطار، وعليه القضاء. وإن شرع في الصوم، ثم تعرض لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، أفطر وقضى، لحديث جابر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم (1)، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا، فقال: أولئك العصاة» (2) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل، وهو قول الجمهور.
وأجاز الحنابلة للمسافر الإفطار ولو سافر من بلده في أثناء النهار ولو بعد الزوال، لأن السفر معنى لو وجد ليلاً واستمر في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، وعملاً بما رواه أبو داود عن أبي بصرة الغفاري الذي أفطر بعد شروعه في السفر، وقال: إنها سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
واشترط الشافعية شرطاً ثالثاً: وهو ألا يكون الشخص مديماً للسفر، فإن كان مديماً له كسائقي السيارات، حرم عليه الفطر، إلا إذا لحقه بالصوم مشقة، كالمشقة التي تبيح التيمم: وهي الخوف على نفس أو منفعة عضو من التلف، أو الخوف من طول مدة المرض، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر: وهو ما لا يعد كشفه هتكاً للمروءة، بأن يبدو في المهنة غالباً.
وهناك شرطان آخران عند الجمهور غير الحنفية: أن يكون السفر مباحاً، وألا ينوي إقامة أربعة أيام في خلال سفره، وأضاف المالكية شرطاً آخر: هو أن يبيِّت الفطر قبل الفجر في السفر، فإن السفر لا يبيح قصراً ولا فطراً إلا بالنية والفعل، كما سيأتي في الفقرة التالية. وأجاز الحنفية الفطر في السفر ولو بمعصية.
والخلاصة: أن المالكية يبيحون الفطر بسبب السفر بأربعة شروط: أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون مباحاً، وأن يشرع قبل الفجر إذا كان أول يوم، وأن يبيت الفطر.
ب ـ ولو أصبح المسافر صائماً، ثم بدا له أن يفطر، جاز له ذلك ولا إثم عليه عند الشافعية والحنابلة، عملاً بحديث صحيح متفق عليه عن ابن عباس، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أفطر في أثناء فتح مكة (3).
ويحرم الفطر ويأثم عند الحنفية والمالكية، وعليه القضاء فقط عند الجمهور، والقضاء والكفارة عند المالكية، لأنه أفطر في صوم رمضان، فلزمه ذلك، كما لو كان مقيماً أو حاضراً.
والصوم عند الحنفية والمالكية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر، أو لم تكن عند الحنفية عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة، فإن كانوا مشتركين في النفقة أو مفطرين، فالأفضل فطره موافقة للجماعة، ويجب الفطر ويحرم الصوم في حال الضرر. ودليلهم عموم قوله تعالى دون تقييده بحال الكبير الذي لايطيق الصوم: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/ 2] والتضرر: هو الخوف من التلف أو تلف عضو منه أو تعطيل منفعة.
وقال الحنابلة: يسن الفطر ويكره الصوم في حالة سفر القصر، ولو بلا مشقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال عن الصائمين عام الفتح: «أولئك العصاة» ولقوله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين: «ليس من البر الصوم في السفر». والرأي الأول هو المعقول عملاً بظاهر الآية: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/ 2] ولأن الفطر عام الفتح من أجل القتال.
جـ ـ وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء؛ لأن الفطر أبيح رخصة عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.
فإن نوى المسافر أو المريض صوماً غير رمضان، لم يصح صومه عند الجمهور لا عن رمضان ولا عما نواه؛ لأنه أبيح له الفطر للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض. وقال الحنفية: يقع عما نواه إذا كان واجباً، لا تطوعاً؛ لأنه زمن أبيح له فطره، فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان.
د ـ وإن صام المسافر ومثله المريض أجزأه باتفاق المذاهب الأربعة عن فرضه، وقال الظاهرية: لا يجزيه. ومنشأ الاختلاف هو المفهوم من قوله تعال: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2] فقال الجمهور: الكلام محمول على المجاز، وتقديره: (فأفطر فعدة من أيام أخر) وهذا الحذف هو المعروف بلحن الخطاب. وقال الظاهرية: الكلام محمول على الحقيقة، لا المجاز، وفرض المسافر هو عدة من أيام أخر، فمن قدر وأفطر، ففرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر.
وتأيد مذهب الجمهور بحديث أنس: «كنا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» (4).
وتأيد مذهب أهل الظاهر بما ثبت عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَديد (وهو ماء بين عُسْفان وقُديد) فأفطر، وأفطروا» (5) وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث أو بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

2 - المرض:
معنى يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد، وهو يجيز الفطر كالسفر، للآية السابقة: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2].
أـ وضابط المرض المبيح الفطر: هوالذي يشق معه الصوم مشقة شديدة أو يخاف الهلاك منه إن صام، أو يخاف بالصوم زيادة المرض أو بطء البرء أي تأخره (6). فإن لم يتضرر الصائم بالصوم كمن به جرب أو وجع ضرس أو إصبع أو دمل ونحوه، لم يبح له الفطر.
والصحيح الذي يخاف المرض أوالضعف بغلبة الظن بأمارة أو تجربة أو بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور العدالة، كالمريض عند الحنفية. والصحيح الذي يظن الهلاك أو الأذى الشديد كالمريض عند المالكية.
وليس الصحيح كالمريض عند الشافعية والحنابلة.
وإن غلب على الظن الهلاك بسبب الصوم، أو الضرر الشديد كتعطيل حاسة من الحواس، وجب الفطر.
وأضاف الحنفية أن المحارب الذي يخاف الضعف عن القتال، وليس مسافراً، له الفطر قبل الحرب، ومن له نوبة حمى أو عادة حيض، لابأس بفطره على ظن وجوده.
فالجهاد ولو بدون سفر سبب من أسباب إباحة الفطر، للتقوي على لقاء العدو، وعملاً بالثابت في السنة عام فتح مكة.
ب ـ ولا يجب عند الجمهور على المريض أن ينوي الترخص بالفطر، ويجب ذلك عند الشافعية وإلا كان آثماً. وإن صام المريض في مرضه، أجزأه صومه؛ لصدوره من أهله في محله، كما لو أتم المسافر.
جـ ـ وللفقهاء آراء في فطر المريض: فقال الحنفية والشافعية: المرض يبيح الفطر. وقال الحنابلة: يسن الفطر حالة المرض ويكره الصوم، لآية {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2]، أي فليصم عدد ما أفطره. وقال المالكية: للمريض أحوال أربعة:
الأولى: ألا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.
الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر له جائز، فهم كالحنفية والشافعية، وقال ابن العربي: يستحب (7).
الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافاً لابن سيرين.
د ـ إذا أصبح المريض أو المسافر على نية الصيام، ثم زال عذره، لم يجز له الفطر. وإن أصبح على نية الفطر ثم زال عذره، جاز له الأكل بقية يومه، وكذلك من أصبح مفطراً لعذر مبيح، ثم زال عذره في بقية يومه، عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
هـ ـ لا يصح بالاتفاق لمريض ولا لمسافر أن يصوم تطوعاً في رمضان. وكذا لا يصح عند الجمهور أن يصوم واجباً آخر، ويصح ذلك عند الحنفية على الراجح، كما تبين في عذر السفر.
وعلى المريض والمسافر في رأي الشافعية الكفارة مع القضاء إذا جاء رمضان آخر، ولم يقض، والكفارة: هي إطعام مد من غالب قوت البلد عن كل يوم.
وتتكرر الكفارة بتكرر السنين. لكن إن استمر العذر حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه سوى القضاء. وإن مات قبل التمكن من القضاء، فلا شيء عليه. وإن مات بعد التمكن من القضاء، صام عنه وليه ندباً، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته عن كل يوم مداً من طعام غالب قوت البلد؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «من مات وعليه صيام شهر، فليُطعَم عنه مكان كل يوم مسكيناً» وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه».

3 - 4 - الحمل والرضاع:
يباح للحامل والمرضع الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا، أي نسباً أو رضاعاً، وسواء أكانت أماً أم مستأجرة، وكان الخوف نقصان العقل أو الهلاك أو المرض، والخوف المعتبر: ما كان مستنداً لغلبة الظن بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق عدل.

ودليل الجواز لهما: القياس على المريض والمسافر، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم» (8) ويحرم الصوم إن خافت الحامل أوالمرضع على نفسها أو ولدها الهلاك.
وإذا أفطرتا وجب القضاء دون الفدية عند الحنفية، ومع الفدية إن خافتا على ولدهما فقط عند الشافعية والحنابلة، ومع الفدية على المرضع فقط لا الحامل عند المالكية، كما سيأتي.

5 - الهرم:
يجوز إجماعاً الفطر للشيخ الفاني والعجوز الفانية العاجزين عن الصوم في جميع فصول السنة، ولا قضاء عليهما، لعدم القدرة، وعليهما عن كل يوم فدية طعام مسكين، وتستحب الفدية فقط عند المالكية، لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (9).
ومثلهما: المريض الذي لا يرجى برؤه، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/ 22]. أما من عجز عن الصوم في رمضان ولكن يقدر على قضائه في وقت آخر، فيجب عليه القضاء ولا فدية عليه.

6 - إرهاق الجوع والعطش:
يجوز الفطر لمن حصل له أو أرهقه جوع أو عطش شديد يخاف منه الهلاك أو نقصان العقل أو ذهاب بعض الحواس، بحيث لم يقدر معه على الصوم، وعليه القضاء. فإن خاف على نفسه الهلاك، حرم عليه الصيام، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2].
وإذا أفطر المرهق بالجوع أو العطش، فاختلف: هل يمسك بقية يومه، أو يجوز له الأكل.

7 - الإكراه:
يباح الفطر للمستكره، وعليه عند الجمهور القضاء، وعند الشافعية لا يفطر المستكره. وإذا وطئت المرأة مكرهة أو نائمة، فعليها القضاء.
هذه أهم الأعذار المبيحة للفطر، أما الحيض والنفاس والجنون الطارئ على الصائم فيبيح الفطر، بل ولا يوجب الصوم ولا يصح معه، كما تقدم في الشروط.

صاحب العمل الشاق:-
 قال أبو بكر الآجري (10): من صنعته شاقة، فإن خاف بالصوم تلفاً، أفطر وقضى إن ضره ترك الصنعة، فإن لم يضره تركها، أثم بالفطر، وإن لم ينتف التضرر بتركها، فلا إثم عليه بالفطر للعذر. وقرر جمهور الفقهاء أنه يجب على صاحب العمل الشاق كالحصاد والخباز والحداد وعمال المناجم أن يتسحر وينوي الصوم، فإن حصل له عطش شديد أو جوع شديد يخاف منه الضرر، جاز له الفطر، وعليه القضاء، فإن تحقق الضرر وجب الفطر، لقوله تعالى: {ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء:29/ 4].
إنقاذ الغريق ونحوه:-
قال الحنابلة (11): يجب الفطر على من احتاجه غيره لإنقاذ آدمي معصوم من مهلكة كغرق ونحوه، ولا يفدي، فإن قدر بدون فطر حرم، فإن دخل الماء حلقه، لم يفطر.


العلامة الشيخ أ.د.وهبة الزحيلي
رئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا
-----------------------------------------
تخريج الهوامش
(1) كراع الغميم: اسم واد أمام عسفان، وهو من أراضي أعالي المدينة.
(2) رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 266/ 4).
(3) وأفطر تبعاً له بعض الناس، وصام بعضهم، فقال عنهم النبي: «أولئك العصاة» رواه مسلم.
(4) متفق عليه (نيل الأوطار: 222/ 4) وروى مسلم عن أبي سعيد مثله. 
(5) متفق عليه (المصدر السابق).
(6) يرى الأطباء أن الأمراض المبيحة للفطر هي مثل: مرض القلب الشديد، والسل (التدرن) والتهابات الرئة، والورم الرئوي، والسرطانات، والتهاب الكلية الحاد، والمصاب بحصاة في المجاري البولية مع اختلاطات والتهابات، وتصلب الشرايين، والقرحة، والسُّكري الشديد، ومرض الفتق الحجابي، والقرحة الاثني عشرية والأمراض الخبيثة أو الإنتانية في الجهاز الهضمي، والأمراض الكبدية المزمنة مثل تشمع الكبد، وأمراض سوء الامتصاص، وحالات الإسهال الشديدة والتهاب البنكرياس الحاد والحصيات المرارية والتهابات الكولون المزمنة.
(7) أحكام القرآن: 77/ 1.
(8)  رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أنس بن مالك الكعبي (نيل الأوطار: 230/ 4).
(9) رواه البخاري (المصدر السابق: ص 231).
(10) كشاف القناع: 361/ 2، غاية المنتهى:323/ 1.
(11) غاية المنتهى: 324/ 1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق