الخميس، 12 يوليو 2012

أقسام الناس في رمضان

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاه.

أمَّا بعدُ:
فقد فضَّل الله شهر رمضان على سائر الشهور، وفضَّل ليلة القدر على ألف شهر، خص الله به المسلمين بالخير والبركات، وأسباب الفضل، وأنواع النعم السابغة؛ فالواجب على المسلم الحق أن يشكر الله على ما أنعم به عليه، ويغتنم الأوقات الشريفة، والمواسم الفاضلة بعمارتها بالطاعات، وترك المحرمات؛ للفوز بالحياة الطيبة، والسعادة بعد الممات.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يُؤَمَّن روعاتكم))؛ رواه الطبرانى عن أنس، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

فمن تجهز لمواسم الخيرات، وتعرض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة، وحضور قلب، وجَمَع هِمَّته، واستقبله بتوبة نصوح، وباستعداد تام لوظائفه العظيمة، من الصلاة وتلاوة القرآن، والذكر والتسبيح والاعتكاف، والصدقة، وترك الذنوب والمعاصي، والعادات السيئة، ورَدَّ الحقوق إلى أهلها - يُرجى له مغفرة الذنوب، والعتق من النيران، والفوز برضا الرحمن؛ كما قال الصادق المصدوق قيلُه - صلى الله عليه وسلم -: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه))؛ متفق عليه من حديث عن أبي هريرة.

فرمضان شهر مبارك، وموسم عظيم للخير والبركة، والعبادة والطاعة، تفتح فيه أبواب الجنات، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين، وينادي مناد كل ليلة: "يا باغيَ الخير هلُمَّ، ويا باغي الشر أقصِر"، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة، وتُقبل فيه التوبة..

والمؤمن الصادق تتضاعف همته للخير في هذا الشهر الفضيل، ويقبل على ربه - سبحانه وتعالى - وينشط للعبادة، والأعمال الصالحة، ويبادر بها، ويملأ أوقاته بما يرضي ربه، ويبتعد عن كل ما يسخطه-  سبحانه - أو يبطل صيامه، أو يُنقص أجره؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفُث يومئذ، ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم؛ والذي نفس محمد بيده، لخَلوفُ فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).

وعنه عند البخاري، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

والاستعداد لرمضان، يتفاوت فيه المكلفون تفاوتًا عظيمًا، بحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾[الليل:4]؛ فيكون عند المؤمنين - أولًا - بمحاسبة النفس على تقصيرها في الواجبات، أو التقصير وفعل المحرمات، والانغماس في الشهوات والشبهات؛ ليُقَوِّم سلوكه، ويحققَ غاية الصيام العظمى، وهي التقوى، مع منع النفس من الاسترسال في المعصية صغيرها وكبيرها، وغض البصر عما حرم الله، وكفّ السمع عن المعازف وغيرها من المحرمات، وحجز النفس عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن أكل الربا والرشوة وغيرها ذلك.

وهذا هو  هدي سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين، ومن سار على هديهم.
فالواجب على الدعاة، وطلاب العلم، والآباء والأمهات في البيوت، النصح ُللمسلمين، وبيانُ خطورة أجهزة الإعلام المرئية، وأنها تُذهب الحسنات، وتجلب السيئات، وتُشغِل المسلم بالفوازير والمسلسلات، والأفلام والمباريات، عن كثير من العبادات، حتى صار شهر الصيام والقيام والتهجد والاعتكاف والصدقة وقراءة القرآن والذكر والعبادة- شهرَ الانغماس في الشهوات، أو النوم بالنهار وتضيع الصلوات أو الجماعات، ثم اللهو بالليل.

أما سبل توعية الناس بفضل شهر رمضان ووظائفِه المتعددة، وتحذيرِهم من قُطاع الطريق على الطاعة، أصحابِ الفن الرخيص، والإعلام الخسيس - فبالدعوة والتوعية؛ وذلك بتحري الأساليب التي يُرجى منها حصول الخير والفائدة والسلامة، وإفادةِ المدعوِّ، وقبولِه الحقَّ، والكف عن الشر، مع الحذر من نفور الناس عن الحق، أو تحوُّل المنكر إلى ما هو أنكر منه، ويتطلب ذلك حكمة الداعي، بتحري الكلمات المناسبة، والأوقات المناسبة، والأسلوب المناسب؛ قال الله – تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.

ووسائل الدعوة كثيرة غير محصورة، أعظمها: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. ﴾

ومنها: الوعظ المباشر والمشافهة، أو باستخدام الشريط والكتيبات، وتوزيع مطويات عن أحكام الصيام وزكاة الفطر.

ومنها: الاستفادة من تواجد الناس بالمسجد، وإلقاء كلمة بعد العصر، وأثناء صلاة التراويح، ويمكنك الاستفادة من كتاب: (مجالس شهر رمضان) للشيخ ابن عثيمين، وشرح مختصر لأحاديث الصيام، والتحذير من مفسدات الصيام، ومحبطات الأعمال.

ومنها: عمل مجلة حائطية يوضح فيها كل ما من شأنه تزكية النفس، وفضل الصيام والقيام وقراءة القرآن والاعتكاف، وفضل العمرة في رمضان، ويمكنك الاستفادة من كتاب: (رياض الصالحين).

أما الاستعداد لرمضان عند شياطين الإنس، وأهل النفوس الخبيثة، والعادات القبيحة من الشياطين الإِنسية فهو - أيضًا - على قدم وساق، فيهتمون - أيضًا - باستقبال رمضان، ولكن بشكل آخر، بالمسلسلات، والأحاجي الماجنة والساقطة والمشتملة على المحاذير الشرعية، كالاختلاط والموسيقا، وتضيع الأوقات في ما يحلق الدينَ، ويصد عن صراط الله المستقيم، ويجلب العار والخزي في الدنيا والآخرة، فيزين شياطين الإنس الباطل، ويزخرفونه ويجعلونه في أحسن صورة؛ ليغتر به السفهاء، وينقاد لهم الأغبياء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، فيميلوا مع الشهوات المزخرفة والمموهة؛ كما قال – تعالى -:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 112، 113].

قال الأستاذ سيد قطب: "قَدَّرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن، قَدَّرنا أن يوحِيَ بعضهم إلى بعض زخرف القول؛ ليخدعوهم به ويُغْروهم بحرب الرسل، وحرب الهدى، وقَدَّرنا أن تَصغَى إلى هذا الزخرف أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق، ومن الضلال والفساد في الأرض".

كل ذلك إنما جرى بقدر الله؛ وفق مشيئته، ولو شاء ربك ما فعلوه، ولمضت مشيئته بغير هذا كله، ولجرى قدره بغير هذا الذي كان؛ فليس شيء من هذا كله بالمصادفة، وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر - كذلك - أو قُدرة!

فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم، إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله، ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري، والقدرة التي وراءه.

بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوًّا، هذا العدو هو شياطين الإنس والجن، والشيطنة وهي التمرد والغواية، والتمحض للشر، صفة تلحق الإنس، كما تلحق الجن، وكما أن الذي يتمرد من الجن، ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطانًا؛ فكذلك الذي يتمرد من الإنس، ويتمحض للشر والغواية، وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان - أيضًا - إذا شَرَسَ وتمرد واستشرى أذاه.

هؤلاء الشياطين - من الإنس والجن - الذين قدَّر الله أن يكونوا عدوًّا لكل نبي، يخدع بعضهم بعضًا بالقول المزخرف الذي يوحيه بعضهم إلى بعض - ومن معاني الوحي: التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر - ويَغُر بعضهم بعضًا، ويُحَرض بعضهم بعضًا على التمرد والغواية والشر والمعصية.

وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملِك أن يراها الناس في كل زمان.

ولقد كان الله - سبحانه - قادرًا - لو شاء - ألا يفعلوا شيئًا من هذا: ألا يتمردوا، وألا يتمحضوا للشر، وألا يعادوا الأنبياء، وألا يؤذوا المؤمنين، وألا يُضِلوا الناس عن سبيل الله، كان الله – سبحانه - قادرًا أن يقهرهم قهرًا على الهدى، أو أن يهديهم - لو توجهوا – للهدى، أو أن يُعجِزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به.

ولكنه - سبحانه - ترك لهم هذا القدر من الاختيار، وأَذِن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله - بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قَدَرُه - وقدَّر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه، كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار، والقدرة التي أعطاهم إياها، فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ. ﴾

فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
♦ يخلص لنا ابتداءً: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء، هم «شياطين»! شياطين من الإنس ومن الجن، وأنهم يؤدون - جميعًا - شياطين الإنس والجن - وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضًا ويضله، كذلك مع قيامهم - جميعًا - بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله.

 أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئًا من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء، وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم، إنما هم في قبضة الله، وهو يبتلي بهم أولياءه؛ لأمر يريده من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء، فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كفَّ الله عنهم الابتلاء، وكف عنهم هؤلاء الأعداء، وعجز هؤلاءِ الأعداءُ أن يَمُدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدَّر الله، وآب أعداء الله بالضعف والخذلان، وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ ﴾.

 أن حكمة الله الخالصة، هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا، فهو إنما يبتليهم في القَدْر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة، وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان، فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيَخلُصون من حظ أنفسهم في أنفسهم، ويبيعونها بيعة واحدة لله على السراء وعلى الضراء سواء؟ وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادرًا على ألا يكون شيء من هذا الذي كان!

﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾؛ أي: لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.

فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا، وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي، وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل؛ فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع، ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد، في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء.

وهذا أمر أراده الله، كذلك جرى به قدره؛ لما وراءه من التمحيص والتجربة، ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته؛ ليعمل لما هو ميسر له، ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.

ثم لتصلح الحياة بالدفع، ويتميز الحق بالمفاصلة، ويتمحض الخير بالصبر، ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة، وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله - أَمَر أعداءه وأمر أولياءه على السواء؛ إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء". اهـ. من ظلال القرآن مختصرًا [3 /125].
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعًا للصيام والقيام، وفعل الطاعات وترك المنكرات، وأن يعيننا على ذلك،، آمين.


وكتبه راجي عفو مولاه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

هناك تعليق واحد: