الخميس، 12 يوليو 2012

فضائل الصيام وأسراره

أخي القارئ الكريم:
إنَّ فضائل العبادة وأسرارَها ميدانٌ قد تحار فيه الألبابُ، ويذهب الوجدان فيه كلَّ مذهب؛ لذا كان لا بدَّ لِمَن أراد ولوجَ باب المعرفة في ذلك أن يتلمَّسَ ما صحَّت به نصوصُ الشريعة الغرَّاء، وإنِّي - مع علمي بصِفْر اليدين، ومُزْجاة البِضاعة - قد رغبتُ في بَذْل الوُسْع في ذلك متشبِّهًا بأهلِ هذا الشأن.


فأقول - والله المستعان -:
إنَّ فضائل الصيام وأسرارَه تكاد - بحمد الله - ألاَّ تنحصر، فمِن ذلك أنَّ:

1- الصيام ركنٌ عظيم من أركان هذا الدِّين الحنيف، فلا يستقيمُ بناءُ الإسلام إلاَّ به، ولا يثبت إيمانُ امرئٍ حتى يُقِرَّ بفرضيته.
قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بُنِي الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وحجِّ البيت، وصومِ رمضان))[1].


2-  الصيام في رمضان وقيام ليلة - وبخاصَّة ليلة القدر - إيمانًا واحتسابًا، دالٌّ على صِدْق إيمان فاعلِه، وإخلاصِه في عمله؛ لذا فهو مبشَّر بمغفرةِ عموم سابق ذنبِه.
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))[2].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه))[3].
ويقول الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن يَقُم ليلةَ القَدْر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه))[4].


3- الصيام لا يعدِل أجرَه أجرُ شيءٍ من عَمَلِ ابن آدم، ففيه استكنَّ سرُّ الإخلاص، فبزَّ أجرُه بذلك جميعَ الأعمال؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ عمل ابن آدمَ يُضاعف، الحسنةُ عشرُ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعْف؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: إلاَّ الصومَ فإنَّه لي، وأنا أجْزي به، يَدَع شهوتَه وطعامَه مِن أجلي)) [5].


4-الصيام وقايةٌ لنفس الصائم من اتِّباع الهوى في الدنيا، ومِن عذاب الله في الآخرة، وحِصْن حَصِين للصائم من مكايدِ الشيطان الرجيم؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ))[6].


5-الصيام قاطعٌ مُؤقَّت لشهوةِ النكاح، وسبب للعِفَّة والطهارة؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - موصيًا شباب أُمَّتِه، وأكرِمْ به مِن موصٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيتزوجْ؛ فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصَّوْم؛ فإنه له وِجاءٌ)) [7]، و((الباءة)): القدرة على مؤنة النكاح، و((وِجاء))؛ أي: قاطع للشهوة.


6-الصيام مُهذِّب لنفْسِ الصائم، ممسكٌ عليه لسانَه وجوارَحه عن قوْل زُور، أو عمل به، مصبِّرٌ له على أذى الناس؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا أصبحَ أحدُكم يومًا صائمًا، فلا يرفثْ ولا يجهل، فإنِ امرؤٌ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم))[8].
وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه))[9].


7-الصيام فاقَ سائِرَ العبادات، بتحقُّق فضيلة الصبر فيه؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصَّوم نِصفُ الصَّبْر))[10].


8- الصيام سبيلٌ لدخول الجَنَّة من باب الريَّان (باب من أبواب الجنة الثمانية)، وهو مُخصَّص للصائمين فقط؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجَنَّة بابًا يُقال له: الريَّان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغلِق، فلم يدخلْ منه أحد))[11].


9-خُلوف - أو خُلْفة - فم الصائمِ هي أطيبُ عند الله من ريح المسك؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لَخُلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عندَ الله من رِيح المِسْك))[12].


10-للصائم فرحتان؛ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وللصائمِ فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفِطْره، وإذا لَقِي ربَّه فَرِح بصومه))[13].


11-الصيام من الأحوال المختصَّة بإجابة الدعاء؛ قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 185- 186].
تأمَّل كيف ذكر - سبحانه - إجابةَ الدعاء بعد ذِكْره فريضةَ الصيام؛ وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ للصائم عند فِطْره لَدعوةً ما تُرَدُّ))[14].


12-الصيام يدعو المسلِمَ للاقتداء بمزيد جُود النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رمضان؛ ((كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكونُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رمضانَ، حين يلقاه جبريلُ - عليه السَّلام))[15].


13- ومِن فضائل الصيام كذلك أنَّه قد فُرِض في أفضل الشُّهور؛ شهر رمضان المبارك، الذي تكاد فضائلُه لا تُحصى، ولعلَّ من المناسب في هذا المقام ذِكْرَ بعضٍ من خصائص هذا الشهر، لتسموَ الرُّوح بتذكُّرِها، وتتجدَّد ذكرى الحبيب بها.


رمضان: شهر القرآن، ففيه كان ابتداء إنزاله، وقد أُنزِل جملةً واحدة من اللَّوْح المحفوظ إلى بيت العِزَّة من السماء الدنيا في تلك اللَّيْلة، ثم نزل منجَّمًا (مُفرَّقًا) على قلْب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة[16]، كان ابتداء هذا التنزُّل في ليلة القدْر المباركة؛ قال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} [البقرة: 185].


وقال - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدُخان: 3].


وقال - سبحانه -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1].


رمضان: شهرٌ فُرِض فيه الصيام؛ قال - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].


وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُخبِرًا الأعرابيَّ عمَّا افترضه الله عليه من الصيام: ((شهر رمضان، إلاَّ أن تطَّوَّع شيئًا))[17].


رمضان: شهر حَوَى ليلةً العبادةُ فيها هي خيرٌ من عبادةٍ في ألف شهر، وهو ما يَزيد عن ثلاث وثمانين سنة؛ (أي: عمر الإنسان جميعه إن لم يزد عليه)، وهي تكون في إحدى ليالي الأيام الوتر (المفرد) من العَشْر الأواخر من رمضان.


قال - تعالى -: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. 


وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((فالْتَمِسوها في العَشْر الأواخر في كلِّ وتر))[18].


رمضان: شهر يُقرَّب فيه أهل البِرِّ والخير، ويُقصى فيه أهل الفجور والشر، وتُغلَّق فيه أبوابُ النيران، وتُشرع فيه أبواب الجِنان، وُيعتق فيه من النار عبادٌ لله، وذلك في كلِّ ليلة.


قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا كان أولُ ليلةٍ من شهر رمضان، صُفِّدت الشياطينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقت أبوابُ النيران فلم يُفتحْ منها باب، وفُتِّحت أبواب الجنَّة فلم يُغلقْ منها باب، ويُنادي منادٍ: يا باغيَ الخير أَقْبِلْ، ويا باغي الشر أَقْصِر، ولله عتقاءُ من النار، وذلك كلَّ ليلة))[19].


اللهمَّ أكرمْنا بشُهود هذا الشهر العظيم، وأَفِض علينا من بركاته، وافتح لنا أبوابَ رحمتك فيه، وتفضَّل علينا بالتوفيق لصيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، واختمْ لنا فيه بمغفرةٍ من عندك، ورحمةٍ من لدنك، ومُنَّ علينا بعِتقِ رقابنا من النار في لياليه المباركة، آمين.


وكتبه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
عضو رابطة علماء أهل السنة
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين


ــــــــــــــــــــــــــ
[1] متفق عليه من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري؛ كتاب الإيمان، باب: {دعاؤكم} إيمانكم، برقم (8)، ومسلم؛ كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم (16)، واللفظ المختار لمسلم، وفيه: ((وصيامِ رمضانَ والحجِّ))؛ أي: بتقديم الصيام على الحج.
[2] متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه البخاري؛ كتاب: الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، برقم (38)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان، برقم (760).
[3] متفق عليه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - أخرجه البخاري؛ كتاب: الإيمان، باب: تطوُّع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37)، ومسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان، برقم (759).
[4] متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه البخاري؛ كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، برقم (35)، ومسلم؛ كتاب: صلاة المسافرين وقَصْرِها، باب: الترغيب في قيام رمضان، برقم (760).
[5] تقدَّم تخريجه بالهامش ذي الرقم (1).
[6] جزء من الحديث عينه الذي تقدَّم تخريجه بالهامش ذي الرقم (1).
[7] متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعودِ - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، برقم (1905)، ومسلم؛ كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لِمَن تاقت نفسه إليه، برقم (1400)، واللفظ لمسلم – رحمه الله.
[8] متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: فضل الصوم، برقم (1894)، ومسلم؛ كتاب الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، برقم (1151)، واللفظ لمسلم – رحمه الله.
[9] أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: مَن لم يدعْ قول الزور والعملَ به في الصوم، برقم (1903)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
[10] جزء من حديث أخرجه الترمذي – وانفرد بتحسينه – في كتاب الدعوات، بابٌ فيه حديثان: التسبيح نصف الميزان...، برقم (3519)، عن رجل من بني سُلَيم، كما أخرجه ابن ماجَهْ مرسلاً عن محرز ابن سلمة، كتاب: الصيام، باب: في الصوم زكاة الجسد، برقم (1745)، وإسناد الحديث برواية ابن ماجه ضعيف؛ لأنَّ فيه موسى بن عبيدة الرَّبَذيَّ، وهو متفق على تضعيفه، والله أعلم.
[11] متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: الريَّان للصائمين، برقم (1896)، ومسلم؛ كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، برقم (1152)، واللفظ للبخاري – رحمه الله.
[12] جزء من حديث تقدَّم تخريجه بالهامش ذي الرقم (1)، و((لَخُلُوفُ)) أو ((الَخُلْفَةُ)) – كما عند مسلم – هي: تغيُّر رائحة فم الصائم، وبخاصَّة بعد الزوال.
[13] جزء من الحديث عينه الذي سبق تخريجه بالهامش ذي الرقم (1).
[14] أخرجه ابن ماجَه؛ كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا تُرَدُّ دعوتُه، برقم (1753)، عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال البوصيري في ((الزوائد)): هذا إسناد صحيحٌ، رجاله ثقات.
[15] جزء من حديث متفق عليه من حديث عبدالله بن عباس - رضي الله عنما -: أخرجه البخاري بلفظه، كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يكون في رمضان، برقم (1902)، ومسلم؛ كتاب الفضائل، باب: كان النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أجودَ الناس بالخير من الرِيح المرسَلة، برقم (2308).
[16] القول بالتنزُّلات الثلاثة للقرآن الكريم، يُنسب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه؛ انظر: تفسير ابن كثير (ص1858)، ط – بيت الأفكار.    
ولا يَخفَى أنَّ الموقوف هنا له حُكم الرَّفْع؛ لكونه مرويًّا عن عَلَم من أعلام الصحابة - رضي الله عنهم – كما أنَّ المرويَّ هنا لا مجال للرأي والاجتهاد فيه.
[17] جزء من حديث متفق عليه من حديث طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري؛ كتاب الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1891)، ومسلم – باختلاف - كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات، برقم (11).
[18] جزء من حديث متفق عليه من حديث أبي سعيد الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب السجود على الأنف، والسجود على الطين، برقم (813)، ومسلم؛ كتاب الصيام، باب: فضل ليلة القدر، برقم (1167).
[19] أخرجه الترمذي؛ كتاب: أبواب الصوم، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان، برقم (682)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث أبي بكر بن عياش. اهـ، ثم ذكره – رحمه الله – مُصحِّحًا له – مرسَلاً عن مجاهد، رحمه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق