السبت، 7 يوليو 2012

متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟

العلامة الشيخ أ.د.وهبة الزحيلي

وفيه مطالب ثلاثة:


المطلب الأول ـ
متى يجب الصوم؟


يجب الصوم بأحد أمور ثلاثة (1).


الأول ـ النذر: بأن ينذر المرء صوم يوم أو شهر تقرباً إلى الله تعالى، فيجب عليه بإيجابه على نفسه، ويكون سبب صوم المنذور هو النذر، فلو عين شهراً أو يوماً، وصام شهراً أو يوماً قبله عنه، أجزأه، لوجود السبب، ويلغو التعيين.
الثاني ـ الكفارات: عن معصية ارتكبها المرء، كالقتل الخطأ، وحنث اليمين، وإفطار رمضان بالجماع نهاراً، والظهار، ويكون سبب الصوم هو القتل أو الحنث أو الإفطار، أو المظاهرة.
الثالث ـ شهود جزء من شهر رمضان من ليل أو نهار على المختار عند الحنفية، فيكون السبب شهود الشهر.
ويجب صوم رمضان: إما برؤية هلاله إذا كانت السماء صحواً، أو بإكمال شعبان ثلاثين يوماً إذا وجد غيم أوغبار ونحوهما، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/ 2] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (2) وفي لفظ البخاري: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وفي لفظ لمسلم: «أنه ذكر رمضان، فضرب بيده، فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدُروا ثلاثين» وقد يقع نقص الشهر أي تسعة وعشرين يوماً مدة شهرين أو ثلاثة أو أربعة فقط، كما في شرح مسلم للنووي، ولا تثبت بقية توابع رمضان كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطراً إلا برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً.

المطلب الثاني ـ 
كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال؟؟!


تتردد أقوال الفقهاء في طريق إثبات هلال رمضان وشوال بين اتجاهات ثلاثة: رؤية جمع عظيم، ورؤية مسلمين عدلين، ورؤية رجل عدل واحد.

أما الحنفية (3) فقالوا:
أـ إذا كانت السماء صحواً: فلا بد من رؤية جمع عظيم لإثبات رمضان، والفطر أو العيد، ومقدار الجمع: من يقع العلم الشرعي (أي غلبة الظن) بخبرهم، وتقديرهم مفوض إلى رأي الإمام في الأصح؛ واشتراط الجمع لأن المَطْلع متحد في ذلك المحل، والموانع منتفية، والأبصار سليمة، والهمم في طلب الهلال مستقيمة، فالتفرد في الرؤية من بين الجم الغفير ـ مع ذلك ـ ظاهر في غلط الرأي.
ولا بد من أن يقول الواحد منهم في الإدلاء بشهادته: «أشهد».
ب ـ وأما إذا لم تكن السماء صحواً بسبب غيم أو غبار ونحوه، فيكتفي الإمام في رؤية الهلال بشهادة مسلم واحد عدل عاقل بالغ، (والعدل: هو الذي غلبت حسناته سيئاته) أو مستور الحال في الصحيح، رجلاً كان أو امرأة، حراً أم غيره، لأنه أمر ديني، فأشبه رواية الأخبار. ولا يشترط في هذه الحالة أن يقول: «أشهد» وتكون الشهادة في مصر أمام القاضي، وفي القرية في المسجد بين الناس.
وتجوز الشهادة على الشهادة، فتصح الشهادة أمام القاضي بناء على شهادة شخص آخر رأى الهلال.
ومن رأى الهلال وحده، صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته، فلو أفطر وجب عليه القضاء دون الكفارة.
ولا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ لأنه وإن صح الحساب أو الرصد، فلسنا مكلفين شرعاً إلا بالرؤية العادية.

وقال المالكية (4): 
يثبت هلال رمضان بالرؤية على أوجه ثلاثة هي ما يأتي:
1ً - أن يراه جماعة كثيرة وإن لم يكونوا عدولاً: وهم كل عدد يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب. ولا يشترط أن يكونوا ذكوراً أحراراً عدولاً.
2ً - أن يراه عَدْلان فأكثر: فيثبت بهما الصوم والفطر في حالة الغيم أو الصحو. والعدل: هو الذكر الحر البالغ العاقل الذي لم يرتكب معصية كبيرة ولم يصر على معصية صغيرة، ولم يفعل ما يخل بالمروءة. فلا يجب الصوم في حالة الغيم برؤية عدل واحد أو امرأة أو امرأتين على المشهور، ويجب الصوم قطعاً على الرائي في حق نفسه. وتجوز الشهادة بناء على شهادة العدلين إذا نقل الخبر عن كل واحد اثنان، ولا يكفي نقل واحد. ولا يشترط في إخبار العدلين أو غيرهم لفظ «أشهد».
3ً - أن يراه شاهد واحد عدل: فيثبت الصوم والفطر له في حق العمل بنفسه أو في حق من أخبره ممن لا يعتني بأمر الهلال، ولا يجب على من يعتني بأمر الهلال الصوم برؤيته، ولا يجوز الإفطار بها، فلا يجوز للحاكم أن يحكم بثبوت الهلال برؤية عدل فقط. ولا يشترط في الواحد الذكورة ولا الحرية. فإن كان الإمام هو الرائي وجب الصوم والإفطار.
ويجب على العدل أو العدلين رفع الأمر للحاكم أنه رأى الهلال ليفتح باب الشهادة، ولأنه قد يكون الحاكم ممن يرى الثبوت بعدل.
أما هلال شوال: فيثبت برؤية الجماعة الكثيرة التي يؤمن تواطؤها على الكذب ويفيد خبرها العلم أو برؤية العدلين كما هو الشأن في إثبات هلال رمضان.
ولا يثبت الهلال بقول منجّم أي حاسب يحسب سير القمر، لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال، لا بوجوده إن فرض صحة قوله، فالعمل بالمراصد الفلكية وإن كانت صحيحة لا يجوز، ولايطلب شرعاً، كما تقدم.

وقال الشافعية (5):
 تثبت رؤية الهلال لرمضان أو شوال أو غيرهما بالنسبة إلى عموم الناس برؤية شخص عدل، ولو مستور الحال، سواء أكانت السماء مصحية أم لا، بشرط أن يكون الرائي عدلاً مسلماً بالغاً عاقلاً حراً ذكراً، وأن يأتي بلفظ «أشهد» فلا تثبت برؤية الفاسق والصبي والمجنون والعبد والمرأة. ودليلهم: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى الهلال، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فصام وأمر الناس بصيامه (6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غداً» (7) والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم.
أما الرائي نفسه فيجب عليه الصوم، ولو لم يكن عدلاً (أي فاسقاً) أو كان صبياً أو امرأة أو كافراً، أو لم يشهد عند القاضي، أو شهد ولم تسمع شهادته، كما يجب الصوم على من صدقه ووثق بشهادته.
وإذا صمنا برؤية عدل، ولم نر الهلال ثلاثين، أفطرنا في الأصح، وإن كانت السماء صحواً، لكمال العدد بحجة شرعية.

وقال الحنابلة (8):
يقبل في إثبات هلال رمضان قول مكلف عدل واحد ظاهراً وباطناً ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً، ولو لم يقل: أشهد أو شهدت أني رأيته، فلا يقبل قول مميز ولا مستور الحال لعدم الثقة بقوله في الغيم والصحو، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره منهم غيره. ودليلهم الحديث المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم صوَّم الناس بقول ابن عمر، ولقبوله خبر الأعرابي السابق به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط، ولا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولاختلاف حال الرائي والمرئي، فلو حكم حاكم بشهادة واحد، عمل بها وجوباً. ولا يعتبر لوجوب الصوم لفظ الشهادة، ولايختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمعه من عدل. ولا يجب على من رأى الهلال إخبار الناس أو أن يذهب إلى القاضي أو إلى المسجد. ويجب الصوم على من ردت شهادته لفسق أو غيره، لعموم الحديث: «صوموا لرؤيته» ولا يفطر إلا مع الناس؛ لأن الفطر لا يباح إلا بشهادة عدلين. وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر لحديث أبي هريرة يرفعه قال: «الفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون» (9) ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط. وتثبت بقية الأحكام إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بواحد من وقوع الطلاق المعلق به، وحلول آجال الديون المؤجلة إليه، وغيرها كانقضاء العدة والخيار المشروط ومدة الإيلاء ونحوها تبعاً للصوم.
ولا يجب الصوم - كما تقدم - بالحساب والنجوم ولو كثرت إصابتها، لعدم استناده لما يعول عليه شرعاً.
ولا يقبل في إثبات بقية الشهور كشوال (من أجل العيد) وغيره إلا رجلان عدلان، بلفظ الشهادة؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالباً، وليس بمال ولا يقصد به المال.
وإنما ترك ذلك في إثبات رمضان احتياطاً للعبادة. وإذا صام الناس بشهادة اثنين: ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، أفطروا، سواء في حال الغيم أو الصحو، لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (10).

ولا يفطروا إن صاموا الثلاثين يوماً بشهادة واحد، لأنه فطر، فلا يجوز أن يستند إلى واحد، كما لو شهد بهلال شوال.
وإن صاموا ثمانية وعشرين يوماً، ثم رأوا الهلال، قضوا يوماً فقط. وإن صاموا لأجل غيم ونحوه كقَتر ودخان، لم يفطروا؛ لأن الصوم إنما كان احتياطاً، فمع موافقته، للأصل: وهو بقاء رمضان، أولى. وإن رأى هلال شوال عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما، وجاز لكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» فإن لم يعرف أحدهما عدالة الآخر، لم يجز له الفطر لاحتمال فسقه إلا أن يحكم بذلك حاكم، فيزول اللبس.

وإن شهد شاهدان عند الحاكم برؤية هلال شوال: فإن رد الحاكم شهادتهما، لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر؛ لأن رده ههنا ليس بحكم منه بعدم قبول شهادتهما، إنما هو توقف لعدم علمه بحالهما، فهو كالتوقف عن الحكم انتظاراً للبينة، فلو ثبتت عدالتهما بعد ذلك ممن زكاهما حكم بها، لوجود المقتضي، وأما إن رد الحاكم شهادتهما لفسقهما، فليس لهما ولا لغيرهما الفطر بشهادتهما.

وإذا اشتبهت الأشهر على أسير أو سجين أو من بمفازة أو بدار حرب ونحوهم، اجتهد وتحرى في معرفة شهر رمضان وجوباً؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد، فلزمه كاستقبال القبلة، فإن وافق ذلك شهر رمضان أو ما بعد رمضان، أجزأه. وإن تبين أن الشهر الذي صامه ناقص، ورمضان الذي فاته كامل تمام، لزمه قضاء النقص؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدد المتروك. وإن وافق صومه شهراً قبل رمضان كشعبان لم يجزئه؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، فلم يجزئه، كالصلاة، فلو وافق بعضه رمضان، فما وافقه أوبعده، أجزأه، دون ما قبله.
وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر، بلا اجتهاد، فكمن خفيت عليه القبلة، لا يجزيه مع القدرة على الاجتهاد.


والخلاصة:
إن الحنفية يشترطون لإثبات هلال رمضان وشوال رؤية جمع عظيم إذا كانت السماء صحواً، وتكفي رؤية العدل الواحد في حال الغيم ونحوه. ولا بد عند المالكية من رؤية عدلين أو أكثر، وتكفي رؤية العدل الواحد عندهم في حق من لا يهتم بأمر الهلال.
وتكفي رؤية عدل واحد عند الشافعية والحنابلة، ولو مستور الحال عند الشافعية، ولا يكفي المستور عند الحنابلة، كما لا بد عند الحنابلة والمالكية من رؤية هلال شوال من عدلين لإثبات العيد.
وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية.

طلب رؤية الهلال:


قال الحنفية (11): 
يجب للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، وكذا هلال شوال لأجل إكمال العدة، فإن رأوه صاموا، وإن غم عليهم، أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صاموا؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا ينتقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد.
وقال الحنابلة (12):
يستحب ترائي الهلال احتياطاً للصوم، وحذاراً من الاختلاف، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان» (13) وروى أبو هريرة مرفوعاً: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» (14).
ويسن إذا رأى المرء الهلال كبَّر ثلاثاً، وقال: «اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والأمن والأمان، ربي وربك الله» ويقول ثلاث مرات: «هلال خير ورشد» ويقول: «آمنت بالذي خلقك» ثم يقول: «الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا» وروى الأثرم عن ابن عمر، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله».
وإذا رئي الهلال يكره عند الحنفية أن يشير الناس إليه، لأنه من عمل الجاهلية.


المطلب الثالث ـ 
اختلاف المطالع:
اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر أو اختلاف المطالع، ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89 كم).

هذا مع العلم بأن اختلاف المطالع نفسه لانزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف،

وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جداً كالأندلس والحجاز، وأندونيسيا والمغرب العربي (15).

وأذكر أولاً عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.


قال الحنفية (16):
اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهاراً قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة، أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أهل بلدة كذا رأوه؛ لأنه حكاية.

وقال المالكية (17):
إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلاد، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، إن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.

وقال الحنابلة (18): 
إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.

وأما الشافعية فقالوارين فرسخاً (19): إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخاً (20).

وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أنه يوافقهم وجوباً في الصوم آخراً، وإن كان قد أتم ثلاثين؛ لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحداً منهم، فيلزمه حكمهم، وروي أن ابن عباس أمر كُرَيْباً بذلك كما سيأتي.
ومن سافر من البلد الآخر الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية، عيَّد معهم وجوباً، لأنه صار واحداً منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يوماً، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تاماً عندهم، وقضى يوماً إن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح معيِّداً، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام، فالأصح أن يمسك بقية اليوم وجوباً؛ لأنه صار واحداً منهم.

الأدلة:
أدلة الشافعية: 
استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول:
1ً - السنة: استدلوا بحديثين: أولهما حديث كُرَيب، وثانيهما حديث ابن عمر:
أ - حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: فقدمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستُهلَّ علي رمضان ُ وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينةفي آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (21).
فدل على أن ابن عباس لم يأخذ برؤية أهل الشام، وأنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر.
ب ـ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدُروا له» (22) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية، لكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض.
2ً - القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة.
3ً - المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان، وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعاً لاختلاف البلدان.

أدلة الجمهور: 
استدلوا بالسنة والقياس.
أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (23) فهو يدل على أن إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية، والمطلق يجري على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة.
وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكُّم، لا تعتمد على دليل.
هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع، وقال الصنعاني: والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سَمْتها (24) أي على خط من خطوط الطول: وهي ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعدم التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض.
وقال الشوكاني: إن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس، لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: «هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وقوله: «فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين».
والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد، فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم.

والذي ينبغي اعتماده هو ماذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها (25).
وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيداً للعبادة بين المسلمين، ومنعاً من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار.

والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هو نحو 9 ساعات، فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقياً أو هاتفياً (26).
والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءاً من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى.


العلامة الشيخ أ.د.وهبة الزحيلي
رئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا

--------------------------------------
تخريج الهوامش :-
(1) الدر المختار ورد المحتار: 111/ 2، مغني المحتاج: 420/ 1، الشرح الكبير: 509/ 1، كشاف القناع: 349/ 2.
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه البخاري عن ابن عمر، ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أيضاً بلفظ آخر، ورواه أحمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ورواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه عن ابن عباس، وروي عن آخرين (نيل الأوطار: 188/ 4 - 192).
(3) رسائل ابن عابدين: 253/ 1، الدر المختار: 123/ 2 - 130، مراقي الفلاح: ص108 ومابعدها، اللباب: 164/ 1.
(4) القوانين الفقهية: ص115 ومابعدها، الشرح الصغير: 682/ 1 ومابعدها، الشرح الكبير: 509/ 1 ومابعدها.
(5) المهذب: 179/ 1، مغني المحتاج: 420/ 1 - 422.
(6) رواه أبو داود وصححه ابن حبان، ورواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
(7) صححه ابن حبان والحاكم ورواه أبو داود والترمذي.
(8) كشاف القناع: 352/ 2 - 358، المغني: 156/ 3 - 163.
(9) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
(10) رواه النسائي وأحمد.
(11) اللباب شرح الكتاب: 163/ 1.
(12) كشاف القناع: 349/ 2.
(13) رواه الدارقطني بإسناد صحيح.
(14) رواه الترمذي.
(15) رد المحتار لابن عابدين: 131/ 2، مجموعة رسائل ابن عابدين: 253/ 1، تفسير القرطبي: 296/ 2، فتح الباري: 87/ 4، المجموع: 300/ 6، بداية المجتهد: 278/ 1، القوانين الفقهية: ص116.
(16) الدر المختار ورد المحتار: 131/ 2 - 132، مراقي الفلاح: ص109.
(17) الشرح الكبير: 510/ 1، بداية المجتهد: 278/ 1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص116.
(18) كشاف القناع: 353/ 2.
(19) المجموع: 297/ 6 - 303، مغني المحتاج: 422/ 1 - 423.
(20) الفرسخ (5544 م) وهذه المسافة تساوي 5544×24=056،133 كم، انظر جدول المقاييس، علماً بأن مسافة القصر (89كم): هي أربعة برد أو ستة عشرة فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام، والقدمان: ذراع، والذراع: أربعة وعشرون إصبعاً معترضات.
(21) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه (نيل الأوطار: 194/ 4).
(22) رواه مسلم وأحمد (نيل الأوطار: 189/ 4 وما بعدها).
(23) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 191/ 4).
(24) سبل السلام: 151/ 2.
(25) نيل الأوطار: 195/ 4.
(26) كتاب الشيخ محمد أبو العلا البنا مدرس الفلك بكلية الشريعة بالأزهر المشار إليه في بحث الشيخ المرحوم محمد السايس، في بحوث المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية: ص 99 ومابعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق