أ. فتح الله كولن
الأشهر المباركة التي تتقدم على رمضان وتبشرنا بإشراقه هي بمثابة مؤشرات وعلامات صامتة وهادئة على قدوم أيام مباركة وظهور بشائرها في الأفق... أيام مليئة بفيوضات تقبل كالسيل الهادر وتحتضن القلوب. ومع اليوم الأول من هذه الأشهر المباركة يحس صاحب كل قلب مؤمن أنه مغمور في جو رمضان. فتجده من اليوم الأول مستعرضا جميع مشاعره المتعلقة بعبوديته مدققا لها لكي يستفيد من بركة الشهر الكريم الذي أصبح منه قاب قوسين أو أدنى حق الاستفادة ويستثمره حق الاستثمار. فكأنه نهض من غفوة فأثَر النعاس لا يزال في عينيه، وكلمات من بقايا حلم على لسانه، فيستجمع جهده لتركيز انتباهه وتجميعه حول هذا الموضوع، وتصيّد النغمة القدسية المتآلفة مع هذا التوجه ومع هذا القصد.
عندما تمتلئ القلوب بالمشاعر، وتبلغ الأرواح قوامها، يولد شهر رمضان من رحم الهلال، ولكن بقوة ضياء البدر من خلف البشائر المتعاقبة لهذه الأيام. ويهبّ كألطف نسيم، ويحيط بقلوبنا ويلاطف أرواحنا وأجسادنا برقّة الحرير، ويملأ أعيننا بصور الجمال الشبيهة بجمال سفوح الربيع، ويثير في أفئدتنا رغبة التسامي، ويدع في صدورنا انتفاضة حلوة كانتفاضة عصفور بلّله القطر.
وأخيرا تنتهي هذه الضيافة التي تدوم شهرا، ويودعنا شهر رمضان الذي قدم بعطاياه الكثيرة... يودعنا ولكن الأرواح التي وصلت إلى حياة جديدة والتي اقتبست من نوره، والقلوب التي استغرقت خلاله في التأمل والتفكر، والتي ارتجفت من خشية الله، والقلوب الهائمة التي خرجت تبحث عن مسالك وطرق الوصال؛ تحتضن بدفء أيام العيد هذه المرة. وكما يرى الإنسان المبحر بعد قليل أن المياه تحيط به من كل الجوانب، نجد أنفسنا في العيد بعد انقضاء الأشهر الحرم الثلاثة في جو من الاطمئنان والسكينة... نحس هذا في أعماقنا، وبكل كياننا، وبكل ماهيتنا الإنسانية.
تبدو صلوات العيد وأصوات التهليل والتكبير وصدقات الفطر لأصحاب القلوب المؤمنة كمنافذ إلى عالم خيالي رائع، فينطلقون كقوارب أطلقت أشرعتها للرياح. أجل، إن الجو العام في العيد، والسحر الذي يحيط به وبكل التصرفات والأصوات والحديث يجعل الإنسان يشعر وكأنه يرتفع نحو السماء ببطء ويبتعد عن محله ومكانه الذي انطلق منه، ويعيش في مثل هذا الجو الساحر الذي تنهمر فيه الأضواء والأنوار.
في العيد نعيش الماضي والحاضر والمستقبل معا. يهيأ إلينا وكأن هناك سحرا غريبا في الأصوات المرتفعة من المعابد وفي المنازل التي نزورها وفي الأيدي المباركة التي نقبلها... سحرا ما أن نلمسها حتى تتفتح أمامنا منافذ عديدة للماضي. فنجد أنفسنا داخل مسجد قديم نجلس في صف واحد مع أجدادنا وأجداد أجدادنا. وحينما تلتقي شفاهنا بالأيدي الطاهرة نشعر وكأننا قد قبّلنا مئات الأيادي المباركة فننتشي بفرحة غامرة. وعندما نهنّئ أصدقاءنا وأحبابنا ونضمهم إلى صدورنا نحس وكأننا نضم أحبابنا الذين عاشوا قبلنا وقبل هؤلاء في عهود سابقة. كل حركة في العيد وكل فكر وكل تصور وكل كلمة أو حديث وكل تصرف يبعث شريطا زمنيا من أشرطة الماضي، ويحيا ويحيط بكياننا، ويملأ أفقنا، ويصبح ملْكنا، ويهب -حسب درجة ووسعة خيال كل منا- أنموذجا للبعث بعد الموت.
الأعياد في الحقيقة ترانيم قادمة إلينا من أمجاد أجدادنا ومن جذورنا المباركة. بسحر هذه الترانيم نصل في كثير من الأحيان إلى عوالم ما كنا لنصل إليها من قبل، إذ ندخل إلى كل مكان بسهولة الأحلام، ونتجول في كل الأماكن بسرعة الخيال طاوين الزمان الذي نعيشه بأزمنة متداخلة بعضها في بعض. أجل، إن الماضي يعود إلينا بكل مجده السابق بدرجة تعايشنا مع سحر شهر رمضان، ويعود كل ما فقدناه من قبل، ونتنفس من جديد رائحة تلك الأيام النقية ونستنشقها بعشق لتمتلئ بها صدورنا، ونرتشف من الينابيع الفياضة الماضية، فنحسب أنفسنا في عالم آخر. وقد يبلغ بنا الاستغراق مبلغا نخال وكأن جميع من في القبور قد بُعثوا، وكل شيء ممزق ومبعثر هنا وهناك أشلاء قد تجمع وتوحد من جديد، ويرجع شتات الزمن الذي انقضى من أعمارنا ليحتضن أرواحنا، ونعيش -بجانب ما نعيشه اليوم وما عشناه بالأمس في أعمق الأذواق وأوسعها- في ذكريات لذائذ روحية ساحرة، حتى إن عناصر اللذة والأذواق في هذه النقطة -كما هي في الأحلام- تكون متغيرة على الدوام حسب نياتنا وأفكارنا وميولنا، وتتجدد على الدوام حسب رغباتنا، وتلبس الحال التي نريدها، وبينما كانت هناك رغبة واحدة إذا بها تنقلب إلى ألف. فكل ما شاهدناه وكل ما سمعناه وكل ما أحسسنا به نراه يتغير -بفضل سحر خارق- من شكل إلى شكل. وبذلك نديم حياتنا بتلونات عديدة من حس لحس، ومن فكر لفكر ومن لذة للذة أخرى.
عندما ينشق فجر يوم العيد تنطلق أصوات التسبيح والتمجيد من المآذن، وفي الدقائق التي يبلغ الجو الروحاني الذروة في كل مكان نشعر بأحاسيس غامضة وسرية تثير خيالنا وتأخذنا إلى الأعماق، بل إلى أعماق الأعماق، وتهمس لقلوبنا بمشاعر لم يفصح عنها من قبل، ولا يمكن بحال من الأحوال التعبير عنها بأي كلمات ولا بأي لغة.
أجل!.. إن نغمة وصوت الأذان عندنا، النابع من عواطف وأفكار الموسيقيين السابقين الكبار أمثال "العِطْري" و"دَدَه أفنْدي"، وأصوات التكبير والتمجيد والتهليل وأسلوبها وطعمها وجمالها، هو اللسان الخاص لهذه الأمة، ولغتها ذات الأبعاد المتنوعة الكثيرة السارية في عروقها. هذه الموسيقى التي تهز عواطفنا وتعبر عن مشاعرنا كأنها نغمات تهبّ على أرواحنا من آفاق ما وراء الزمن.
المؤذن بهتافه المتلاحق وكأنه يصدر أوامر، والإمام الذي يرتجف صوته ويئن بكلمات سماوية، وجماعة المصلين الذين يهدرون معا مثل أوركسترا... كل هذا يجري بدرجة من الأصالة والمهابة ويبعث القشعريرة في الأجساد. وعندما نتمتم بهذه الأصوات المرتفعة من المعابد ونهمس بها نحس من جديد بماض طويل مجيد، بل أكثر من هذا بحقيقة عالمية شاملة، ونظرة تمتد من الأزل إلى الأبد، فنغرق في جو من السعادة.
إن المعبد -ولا سيما في أيام العيد- يمثل بجوّه الرقيق الناعم كالحرير، والدافئ دفء عش الطير، والمملوء حيوية... يمثل صفاء المشاعر، وراحة الوجود والاطمئنان، وغاية العيش، ومغامرة الحياة، وجذور المعاني لأمّتنا، وأسس ثقافتنا وخلود ديننا، وموسيقى لغتنا، ونظرتنا للحياة، ورأينا في الدنيا وأسلوبنا ولهجتنا، ويهمس لنا ليرينا الطرق المؤدية إلى الإنسان الحقيقي.
إننا نشعر على الدوام بهذه الأصوات التي تتردد في جوانب المعبد، ونجد في هذه الأصوات الدافئة انحناء السماء نحو الأرض، وتكامل الأرض مع السماء، وغمز النجوم لزهور الأرض وورودها، وبسمة الورود لأهل السماء، ونحس بالتواصل السري والسحري الدائم بين السماء والأرض ونكاد نراه رأي العين.
هذا الصوت وهذا المنظر وهذا الهمس الذي ينقل كل شخص -حسب قابلية روحه وعمق خياله- إلى عالم آخر يبعث في القلوب المؤمنة صورا رائعة من الجمال ترتعش لها الأفئدة وترق لها العواطف. وعندما تنتهي الصلاة وتختتم السياحة السماوية، ويودع المسجد مؤقتا، يعود الإنسان إلى الناس من جديد كأنه آتٍ من ضيافة الرحمن بعد أن اكتسب بُعدا وعمقا جديدين، ويحتضنهم ويبادلهم التهاني، ويتقاسم مع كل من يصادفه في السوق والشارع، وفي البيت ومكان العمل، وفي المدرسة والمعسكر هذه الهبات والأعطيات التي أخذها واستلمها وامتلأ بها. وهكذا تكتسب أجزاء الزمان المحدودة ضمن بضع ساعات، بدرجة سعة القلب وعلو الروح، صفة فوق الزمان، فكأنه اكتسب خلودا. ويتوضح لدى الإنسان كيف أنه وهو في الدنيا قد أسس علاقات عميقة مع الأبدية وما وراء هذا العالم.
ولا أدري كيف كان من الممكن وما الزمان المطلوب أو النظام الذي يمكن الاستعانة به لكي يحس المسلمون صغيرهم وكبيرهم بكل هذه المشاعر وهذه الأحاسيس والخيالات، وبكل هذه العواطف المتأججة، وتنعكس كل هذه الأصداء في أرواحهم، لو استعانوا بطرق أخرى أو سبل غير هذه السبيل. وأنا لا أعتقد إمكانية هذا الأمر ولا نجاحه في الوصول إلى كل هذه الروحانية الشفافة. لأن بهجة الأعياد وفرحتها وسعادتها ولذّتها لا تنبع فقط من هذه الحياة المعاشة، بل من أبعاد الحياة التي سوف نحياها في دار العقبى. فكل من يعش في خيال البرج العاجي لقلبه، يلقه هناك سحر سيحسّه وسيذوقه في المستقبل إلى جانب ما ذاقه اليوم. ويتجول في عالم رؤى المستقبل الأكيدة التي تبدو لعالمه الداخلي أكثر ملاءمة ودفئا ونعومة. والإنسان في الحقيقة مجبول على التطلع والانتظار، يقضي معظم عمره في انتظار عوالم الأمل وأخيلته. ومعظمنا في انتظار جنة مرتبطة بمعنى لصيق بماهيتنا وذاتنا. وليس هذا الانتظار نابعاً عن عدم استحساننا أو عدم قبولنا ورضانا عن الحياة التي نعيشها، بل انتظار لمفاجآت إلهية لا تستوعبها خيالاتنا كبَشَر، ولا خطرت ببالنا، ولا على أسماعنا، ولم نذقها. والأعياد ألسنةٌ بليغة تهمس بصواب هذا الأمر من منافذ قلوبنا إلى أعماق أرواحنا.