في الحديث الشريف: «مَثَلُ الَّذِى يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لاَ يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا، فَقَالَ: يَا رَاعِى أَجْزِرْنِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ (يعني أعطني شاة تصلح للذبح). قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا. فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ».
وفي رواية: «مَثَلُ الَّذِي يَسْمَعُ الخُطْبَةَ ثُمَّ لَا يَعِي مَا يَسْمَعُ...».
ومعلوم أنَّ الحكمة لا تُسَمَّى شرًّا، لكن لما كانت الحكمةُ مرجعُها إلى العدل والعلم والحُكْم، كان الذي لا يسلُكُ بها سبيلَ الحق والعدل قد جعلها شرًّا، ومع أن كلبَ الغنم الذي يحرسها قد يكون خيرًا من شاة أحياناً، فإن الحديث اعتبر آخذَه هنا مخطئا؛ لأنه لما قال «أَجْزِرْنِي شَاةً» فإنه استعطى ما يُنْتَفَع بلحمه، والكلبُ لا يُنْتَفَع بلحمه، إنما يُنْتَفَع بصيده وحراسته.
سوء الفهم للشريعة:
هذا الحديث وهذا المثال المعبِّر أذكره كثيراً حين أقرأ أو أستمع لبعض مَنْ يتكلمون عن الشريعة الإسلامية، فلا يذكرون منها إلا الحدود والعقوبات، يريدون تخويف الناس بأن غاية ما يسمى بالدولة الإسلامية إنما هو إنزال تلك العقوبات بأفراد المجتمع، وأنه ليس عند دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية -بزعمهم- غير الدعوة إلى إقامة الحدود. وتلك مقولة شائهة مجانبة للصواب.
تهيئة الأمة أولا:
الحقيقة أن التشريع في الإسلام ليس محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور أولئك أو يصوّرون، والحدود ليست إلا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، التي ينبغي أن تسبقها تهيئة صحيحة للأمة من خلال نشر الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام، وحتى تفكر الأمة تفكيراً استقلالياً يعتمد علي أساس الإسلام العظيم لا علي أساس التقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، بل تتميز بمقوماتها كأمة عظيمة مجيدة تجرُّ وراءها أفضل ما عرف التاريخ من دلائل الحضارة والتقدم ومظاهر الفخار والمجد. ومن ثم فهي تستخدم كل المنابر الدينية والتعليمية والإعلامية والفنية وكل وسائل صناعة الرأي والتوجيه لتعمل على:
1-إيجاد الفرد المسلم الحر الذي يمتلك وجداناً شاعراً يتذوق الجمال والقبح، وإدراكاً صحيحاً يتصور الصواب والخطأ، وإرادة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق، وجسماً سليماً يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حق القيام، ويصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة، وينصر الحق والخير والقيم النبيلة، يستوي في ذلك الذكر والأنثى.
2-ثم إيجاد المجتمع المسلم الذي يطبق القيم والأخلاق الإسلامية وقواعد الحياة الاجتماعية السعيدة، من خلال تقوية آصرة الأخوة التي هي قرينة الإيمان، والتي تبدأ بتأكيد سلامة الصدور بين أبناء الأمة، وترتفع بمستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار، وتحديد الحقوق والواجبات والصلات بين سائر مكونات المجتمع، دون تمييز لأحد، والقضاء على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج، والوقاية مما يؤدي إلى ذلك، واستئصال ما عساه أن يحدث منها، والتركيز في كل علاج للمشكلات الاجتماعية على صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي بين بني الإنسان، قبل الحلول الأمنية أو العقابية.
3-ثم إقامة الحكومة العادلة التي تنشر العدل وتحفظ الحريات وتحرس القيم وتنظم العلاقات، وتعتمد على الكفاءات، وتسعى لتحقيق الكفاية، وتحرس وحدة الأمة، وتقبل رقابتها وتحترم إرادتها على كل المستويات.
4-ثم تأتي بعد ذلك الحدود التي هي الضوابط التي تحمي ذلك المجتمع وتلك الأخلاق؛ إذْ لا يمكن للمجتمع -أي مجتمع- أن تنتظم أموره دون ضبط اجتماعي.
تشريع شامل:
بهذا ترى أن التشريع في الإسلام تشريع شامل، ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، ويضع المبادئ الأساسية لتنظيم العلاقة بين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني وإداري ودستوري ودولي... إلخ ، إلى جانب أنه قانون ديني.
ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات، والمعاملات، والأنكحة، والمواريث، والأقضية، والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والآداب، فهو يضع القواعد ويرسي المبادئ الصالحة لتنظيم حياة الإنسان، من المستوى الفردي، إلى إقامة الدولة والحكومة، والإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء بهذا الشمول والكمال.
فهو يضع قواعد نظام سياسي يضمن سلامة المجتمع ويحفظ كرامته ويحقق حريات وحقوق أفراده وحصول هيبته بين المجتمعات.
ويضع قواعد نظام اقتصادي يمنع الغش والاحتكار والاستغلال، ويعمل على تنمية الموارد وتنظيم الاستفادة المثلى منها، ويضمن الكفاية بل الوفرة والرفاه والعيش الكريم لسائر الذين يعيشون تحت لوائه.
ويضع قواعد نظام أمني وقضائي يضمن حقوق الناس وأمن المجتمعات في عدالة مطلقة لا تمييز فيها.
ويضع قواعد نظام اجتماعي يحقق إقامة الأسر والبيوت على أساس متين من الترابط والحب والتعاون على البر والتقوى، ويقدم الحلول الجذرية للمشكلات الاجتماعية.
ويتميز بوضع نظام أخلاقي يعتمد تربية الضمير الحي في النفس والمراقبة الإلهية أساسا ومنطلقا للأخلاق، حتى إن المخطئ ليذهب بنفسه إلى القاضي ويصر على تطهير نفسه من الخطأ الذي وقع فيه.
وهكذا تجد في هذا الدين القويم كل النظم التي يحتاجها الفرد وتحتاجها الجماعة للعيش الآمن الرغيد والحياة الكريمة المستقرة في الدنيا، وللفوز برضوان الله وجنات النعيم في الآخرة.
ثم يأتي نظام العقوبات أو النظام الجنائي ليؤكد أن الحدود ليست سوى السياج والإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال، وبأنه مجتمع منضبط غير منفلت، وأن من لم تستقم فطرته، ولم يتوافق مع مجتمعه، ومن يسعَ في الإفساد في الأرض بغير حق؛ يجب ضبطه بهذه الحدود لإيقاف شره، ودفع ضره، وزجر غيره ممن هم على شاكلته، أو تحدثهم أنفسهم بمثل إفساده، وقد يَزَعُ الله بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن.
فضيلة الشيخ العلامة أ.د.عبد الرحمن البر
عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق