السورة مكيّة، وقد ثبت في
الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها وبسورة الغاشية في صلاة
العيد.
وهي تتضمن أمر النبي صلى
الله عليه وسلم بالتسبيح باسم ربه الأعلى، ووصفه بما يستحقه من الصفات العُلى،
والأسماء الحسنى، ثم ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيُقْرئه هذا القرآن فلا
ينساه، إلا ما شاء الله أن ينسيه، وأنه يعلم الجهر وما يخفى، وييسره لليسرى.
كما أمره بالتذكير الذي
هو دأبه ورسالته دائما، وإن كان تذكر القوم بعيدا، ولكن من يخشى الله سيستفيد
وسينتفع {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا
يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}.
ثم يبين القرآن أن الفلاح
والفوز في الآخرة إنما هو لمن تزكى، تزكى إيمانيا وأخلاقيا، وزكاة نفسه هذه إنما
تكون بذكر الله والصلاة.
وأخيرا يعلن القرآن هذه
الحقيقة: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وهذا هو ما يشغل عموم الناس: أن يقدموا أمور
الحياة الدنيا ومطالبها ، مع أنهم إذا قارنوها بالآخرة، كانت الآخرة خير وأبقى.
والحقيقة الأخيرة أن ما
قرره محمد في دينه ليس جديدا، وإنما هو أمر قررته الأديان السماوية السابقة، وقرره
الأنبياء الكبار في صحفهم وكتبهم كما في صحف إبراهيم وموسى.
إن هذه الرسالة تصدق
الرسالات السابقة؛ فهي تتضمن تسبيح الرب الأعلى وتنزيهه، والإشارة إلى وحدانيته،
وعلى تأييد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتثبيته وإقرائه القرآن، وأن الله
سبحانه آتاه شريعة سمحة ميسرة، وكتابا يذكّر الناس، فلا يعرض عنه إلا أتباع الدنيا
المتكالبون عليها. وإن رسالة محمد هي اتباع للرسالات الأولى.
{سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}:
الخطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم، المنزل عليه القرآن، ولكل من يتأتى خطابه معه، وهو أمر من الله تعالى
بتسبيح اسمه عز وجل. والتسبيح إحدى المعبرات الأربعة عن كمال الألوهية، كما يصورها
القرآن العظيم، وهي التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وهي التي يعبر عنها
بالكلمات الطيبة، أو الباقيات الصالحات، التي تتمثل فيما جاءت به الأحاديث الصحاح:
"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
فـ(سبحان الله): تنزيه له
تعالى شأنه عما لا يليق بجلاله وكماله.
و(الحمد لله): وصف له
بالحمد الذي بدأ به كتابه وافتتح به سورة (الحمد).
و(لا إله إلا الله):
إعلان لحقيقة التوحيد الذي يبطل كل ما سوى الله مما يعبد ويقدس، فلا إله
غيره، ولا معبود سواه.
و(الله أكبر): إعلان عن
عظمته وعلوه على كل ما سواه، وكل ما سواه إنما هو مخلوق له، يجري بقضائه وقدره.
اهتم القرآن بالتسبيح؛
لأنه تنزيهٌ لله عن كل النقائص والمحذورات التي ألحقها به المشركون الذين ينكرون
النبوة والرسالة، والمحرفون الذين ثبتت عندهم الرسالة، ثم شوهوها وحرفوا كلمها عن
مواضعها، فنسبوا إلى الله الأبناء والأولاد، ونسبوا إلى الله التشبه بالخلق،
ونسبوا إليه كثيرا من النقائص، ولكن القرآن أثبت له التسبيح على ألسنة الملائكة
الذين {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا
عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
وعلى لسان الرسل
والأنبياء: {وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى
فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ}
[الأنبياء:78].
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116].
{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ
سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
وعلى لسان المؤمنين
جميعا، كما قال تعالى عنهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
وعلى لسان الله تبارك
وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِين} [الصافات:180-182].
جاء القرآن بالتسبيح في
كل صيغه، وبدأ به سورة الإسراء، فجاء به في صيغة المصدر، كما في سورة الإسراء:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1].
وجاء بالتسبيح في صيغة
الفعل الماضي:{سَبَّحَ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:57].
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1]. وكذلك في مفتتح سورة الصف.
وجاء في صيغة الفعل
المضارع، كما في بدء سورة الجمعة:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1].
وكذلك بدء سورة التغابن:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1].
وقد جاء القرآن في بدء
هذه السورة بفعل الأمر: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ليبين لنا القرآن أن الله تعالى يُسبَّح بكل
صيغة، في الماضي والحاضر والمستقبل، وبالأمر والمصدر، حتى إننا نبدأ صلاتنا
بالتسبيح: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله
غيرك" كما قال تعالى في سورة الواقعة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74].
وروى الإمام أحمد بسنده
عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، قال:"اجعلوها في سجودكم".[مسند أحمد
(17414)، وأبو داوود باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869)، وابن ماجة باب
التسبيح في الركوع والسجود (887)].
وروى الإمام أحمد عن ابن
عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، قال:"سبحان ربي الأعلى".
وقال القرطبي: يُستحبّ
للقارئ إذا قرأ: {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، أن يقول عقبه: "سبحان ربي الأعلى". قاله النبي صلى
الله عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين.
ومعنى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي: عظّمْهُ، ونزّهه عما لا يليق به، نزّه اسم
ربك عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائفة، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يُشعر
بتشاركهما فيه، وعن ذكره، لا على وجه الإعظام والإجلال، نزّهه عن النقائص
والغِيَر، وعن كل ما يقوله المشركون والمحرفون، ونزه اسمه تعالى أن يسمى به صنم أو
وثن، أو نزه اسم ربك عن أن تذكره إلا وأنت خاشع.
هذا إذا أخذنا بظاهر
اللفظ، وهناك من يقول: إنما المرادُ بالاسم هو المُسمَّى، والمراد: عظّم ونزّه ربك
الأعلى، وذكر الاسم قصد به تعظيم المسمّى، كما قال لبيد:
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسمُ
السّلاَمِ علَيكُما *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقدِ اعتذرْ
وروى نافع عن ابن عمر: لا
تقل: (على) اسم الله؛ فإن اسم الله هو الأعلى.
ومن هنا صحت الأحاديث
المرفوعة والموقوفة أنهم كانوا يقولون: "سبحان ربي الأعلى".
وهذا كله يدل على أن
الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: "سبحان اسم ربي الأعلى".
و{الْأَعْلَى} في الآية: صفة للرب عز وجل، وهو الأجلى
والأظهر، وبعضهم قال: صفة للاسم، والدليل على الأول قوله تعالى في سورة الرحمن:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ}
[الرحمن:78]. لم يقل: (ذو الجلال والإكرام)، فيكون وصفا للاسم، بل قال: (ذي
الجلال)، ليكون وصفا للرب، بخلاف قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ}
[الرحمن:27]. فكان الوصف للوجه، والوجه هو الذات.
أ.د.يوسف بن عبد الله القرضاوي
رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق