قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة من صحيحه:حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
حدثنا زهير بن حرب وأبو كريب قالا حدثنا وكيع عن شعبة ومسعر عن الحكم بهذا الإسناد مثله، وليس في حديث مسعر: ألا أهدي لك هدية؟.
حدثنا محمد بن بكار حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش وعن مسعر وعن مالك بن مغول كلهم عن الحكم بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وبارك على محمد، ولم يقل: اللهم.
المبحث الأول:
التخريج:
أخرج مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث من هذه الطرق الثلاث عن الحكم ـ وهو ابن عتيبة ـ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه . وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ولفظه: قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)).
وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ولفظه: قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
وأخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة في (كتاب الأنبياء) من صحيحه فقال: حدثنا قيس بن حفص وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو قرة مسلم بن سالم الهمداني قال:حدثني عبد الله بن عيسى سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم . فقلت: بلى فاهدها إليّ. فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله علمنا كيف نسلم. قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
وأخرجه في تفسير سورة الأحزاب فقال: حدثني سعيد بن يحيى حدثنا أبي حدثنا مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد، فذكره بمثل لفظه في صحيح مسلم. وأخرجه في (كتاب الدعوات) فقال: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الحكم قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد)). ولفظه كلفظ مسلم أيضاً. وأخرجه من حديث أبي حميد الساعدي في موضعين، ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في موضعين أيضاً.
وأخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة) من سننه (باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد)، فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا أو قالوا: يا رسول الله أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد))، حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة بهذا الحديث قال: ((صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم))، حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن بشر عن مسعر عن الحكم بإسناده بهذا قال: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال أبو داود: رواه الزبير بن عدي عن ابن أبي ليلى كما رواه مسعر إلا أنه قال: ((كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد)) وساق مثله. وأخرجه أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وأخرجه الترمذي في (كتاب الصلاة، باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )، فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أسامة عن مسعر والأجلح ومالك بن مغول عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). قال محمود: قال أبو أسامة: وزادني زائدة عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ونحن نقول: وعلينا معهم. قال: وفي الباب عن عليّ، وأبي حميد، وأبي مسعود، وأبي سعيد، وطلحة، وبريدة، وزيد بن خارجة ويقال ابن حارثة، وأبي هريرة. قال أبو عيسى: حديث كعب بن عجرة حديث حسن صحيح، وعبد الرحمن بن أبي ليلى كنيته أبو عيسى، وأبو ليلى اسمه يسار.
وأخرج النسائي في (كتاب الصلاة) من سننه حديث كعب بن عجرة من ثلاث طرق، وأخرجه أيضاً من حديث أبي مسعود الأنصاري، ومن حديث طلحة بن عبيد الله، ومن حديث زيد بن خارجة، ومن حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه .
وأخرج حديث كعب بن عجرة، ابن ماجه في سننه فقال في (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها): حدثنا عليّ بن محمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة (ح) وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)). وأخرجه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي حميد الساعدي، ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
وأخرجه الدارمي في سننه من حديث كعب بن عجرة، ومن حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما. وأخرج حديث كعب بن عجرة الإمام أحمد في (المسند) في أكثر من موضع.
المبحث الثاني:
التعريف برجال الإسناد:
الأول: شيخ مسلم محمد بن المثنى، تقدم في رجال إسناد الحديث الثامن.
الثاني: شيخ مسلم محمد بن بشار، قال في (التقريب): محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله بضع وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته وترجمة شيخه محمد بن جعفر في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
الثالث: شيخ مسلم زهير بن حرب، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.
الرابع: شيخ مسلم أبو كريب، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الخامس: شيخ مسلم محمد بن بكار، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن بكار بن الريان الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله البغدادي الرصافي، ثقة، من العاشرة، مات سنة ثمان وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، وله ثلاث وتسعون سنة، ورمز لكونه من رجال مسلم، وأبي داود.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وفليح بن سليمان، وإسماعيل بن زكريا، وغيرهم سماهم. ثم قال: روى عنه مسلم، وأبو داود، وابنه إبراهيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، والدار قطني، وختم ترجمته بقوله: وفي الزهرة روى عنه مسلم تسعة أحاديث.
السادس: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الأول: محمد بن جعفر، قال الحافظ في (التقريب): محمد بن جعفر الهذلي البصري، المعروف بغندر، ثقة، صحيح الكتاب، إلاّ أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
السابع: شيخ شيخي مسلم في الإسناد الثاني: وكيع بن الجراح، تقدم في رجال إسناد الحديث الأول.
الثامن: شيخ شيخ مسلم في الإسناد الثالث: إسماعيل بن زكريا، قال الحافظ في (التقريب): إسماعيل بن زكريا بن مرة الخلقاني ـ بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف ـ أبو زياد الكوفي، لقبه شقوصاً ـ بفتح المعجمة وضم القاف الخفيفة وبالمهملة ـ صدوق يخطئ قليلاً، من الثامنة، مات سنة أربع وسبعين ـ أي بعد المائة وقيل قبلها ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن أبي بردة بن أبي موسى، وعاصم الأحول، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق الشيباني، وطلحة بن يحيى، ومالك بن مغول، ومسعر، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه سعيد بن منصور، وأبو الربيع الزهراني، ومحمد بن الصباح الدولابي، ومحمد بن بكار بن الريان، ولُوَين، وعدة.
وقال في مقدمة فتح الباري: اختلف فيه قول أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال النسائي: أرجو أن لا بأس به، ووثقه أبو داود. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عدي : هو حسن الحديث، يكتب حديثه. ثم ذكر أن له في البخاري أربعة أحاديث، ثلاثة ذكرها من رواية غيره بمتابعته، والرابع أخرجه عن محمد بن الصباح عنه عن أبي بردة عن جده أبي موسى عن أبي موسى في قصة الرجل الذي أثنى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((قطعتم ظهر الرجل))، ثم قال: ولهذا شاهد من حديث أبي بكرة وغيره، والله أعلم. انتهى.
التاسع: شعبة وهو ابن الحجاج، قال الحافظ في (التقريب): شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن. كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث. وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذبَّ عن السنة، وكان عابداً، من السابعة، مات سنة ستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث العاشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.
العاشر: مسعر وهو ابن كدام، قال الحافظ في (التقريب): مسعر بن كدام ـ بكسر أوله وتخفيف ثانيه ـ ابن ظهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة، ثبت، فاضل، من السابعة، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وذكر في (تهذيب التهذيب) جماعة روى عنهم منهم: سعيد بن أبي بردة، وعبد الملك بن عمير، والحكم بن عتيبة. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: ابن عيينة، وابن المبارك، وإسماعيل بن زكريا، وابن نمير، ووكيع. ثم ذكر الكثير من ثناء الأئمة عليه ومن ذلك: قول شعبة: كنا نسمي مسعر المصحف. وقول إبراهيم بن سعيد الجوهري: كان يسمى الميزان. وقول عبد الله بن داود: كان مسعر يسمى المصحف، لقلة خطئه وحفظه. وقول ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مسعر إذا خالفه الثوري فقال: الحكم لمسعر، فإنه المصحف. وقول وكيع: شكُّ مسعر كيقين غيره. وقول ابن أبي حاتم: سئل أبي عن مسعر وسفيان، فقال: مسعر أعلى إسناداً، وأجود حديثاً، وأتقن، ومسعر أتقن من حماد بن زيد. ونقل توثيقه عن أحمد، والعجلي، وابن معين، وأبي زرعة.
وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت من مسعر. وقال أحمد بن حنبل: الثقة مثل شعبة ومسعر. انتهى.
وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد بن زيد: وقال وكيع: وقيل له أيهما أحفظ ـ أي الحمادين، حماد بن زيد وحماد بن سلمة ـ؟ فقال: حماد بن زيد ما كنا نشبهه إلاّ بمسعر.
الحادي عشر: الأعمش. تقدم في رجال إسناد الحديث الثالث.
الثاني عشر: مالك بن مغول، قال الحافظ في (التقريب): مالك بن مغول ـ بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الواو ـ الكوفي، أبو عبد الله، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين ـ أي بعد المائة على الصحيح ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): البجلي أبو عبد الله الكوفي، ثم ذكر جماعة روى عنهم منهم: أبو إسحاق السبيعي، ونافع مولى ابن عمر، والحكم بن عتيبة، وعبد الله بن بريدة، وطلحة بن مصرف. ثم ذكر جماعة رووا عنه منهم: شعبة، ومسعر، والثوري، و زائدة، وابن عيينة، وإسماعيل بن زكريا، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع، وابن المبارك أبو معاوية، وابن نمير، وأبو أسامة. ثم ذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، وأبي نعيم، وابن سعد. وقال: وقال ابن حبان في (الثقات): كان من عبّاد أهل الكوفة ومتقنيهم.
الثالث عشر: الحكم وهو ابن عتيبة، قال الحافظ في (التقريب): الحكم بن عتيبة ـ بالمثناة ثم الموحدة مصغراً ـ أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة، ثبت، فقيه، إلاّ أنه ربما دلّس، من الخامسة، مات سنة ثلاث عشرة ـ أي بعد المائة أو بعدها ـ وله نيف وستون، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الكندي مولاهم، أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر الكوفي، وقال: روى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم وقيل لم يسمع منه، وعبد الله بن أبي أوفى، هؤلاء صحابة، وشريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وابن أبي ليلى، وغيرهم من التابعين سماهم. ثم قال: وعنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جحادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة. ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن ابن مهدي، وابن معين، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، ويعقوب بن سفيان.
الرابع عشر: ابن أبي ليلى، قال الحافظ في (التقريب): عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني ثم الكوفي، ثقة، من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين، وقيل غرق، ورمز لكونه من رجال الجماعة.
وقال في (تهذيب التهذيب): الأنصاري الأوسي، أبو عيسى الكوفي، والد محمد، ولد لست بقين من خلافة عمر، روى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وحذيفة، وكعب بن عجرة، وغيرهم سماهم. ثم قال: وعنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والشعبي، وثابت البناني، والحكم بن عتيبة، وغيرهم سماهم.
وقال النووي في (تهذيب الأسماء): واتفقوا على توثيقه وجلالته. وقال في شرحه لأول حديث في مقدمة صحيح مسلم وهو من رجال إسناده: وأما عبد الرحمن بن أبي ليلى فإنه من أجلِّ التابعين. وقال: وأما ابن أبي ليلى الفقيه، المتكرر في كتب الفقه، والذي له مذهب معروف، فاسمه محمد وهو ابن عبد الرحمن هذا، وهو ضعيف عند المحدثين، والله أعلم. انتهى.
الخامس عشر: كعب بن عجرة، قال الحافظ في (التقريب): كعب بن عجرة الأنصاري، المدني، أبو محمد، صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.
وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى سبعة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: أن له في صحيح البخاري حديثين. وقال في (تهذيب التهذيب): أبو محمد، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو إسحاق. وقال في (الإصابة): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعن عمر، وشهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب): فيه نزلت (فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )، نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة ثلاث أو إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، روى عنه أهل المدينة وأهل الكوفة.
المبحث الثالث:
لطائف الأسانيد الثلاثة وما فيها من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:
(1) رجال الأسانيد الخمسة عشر خرَّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ مسلم محمد بن بكار، فلم يرو له مع مسلم سوى أبي داود، وشيخه زهير بن حرب لم يرو له الترمذي.
(2) تسعة من الرواة كوفيون وهم: كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى، والحكم بن عتيبة، وأبو كريب، ووكيع، ومسعر، وإسماعيل بن زكريا، والأعمش، ومالك بن مغول، وكعب وابن أبي ليلى هما أيضاً مدنيان. وفيهم أربعة بصريون وهم: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، ومحمد بن جعفر، وشعبة، وشعبة واسطي أيضاً، أما الراويان الباقيان فهما: محمد بن بكار وهو بغدادي، وزهير بن حرب نسائي ثم بغدادي.
(3) خمسة من الرواة من ذوي الألقاب في المحدثين وهم: محمد بن المثنى ولقبه الزمن، ومحمد بن بشار ولقبه بندار، ومحمد بن جعفر ولقبه غندر، وإسماعيل بن زكريا ولقبه شقوصاً، والخامس الأعمش واسمه سليمان بن مهران.
(4) شيخا مسلم في الإسناد الأوّل محمد بن المثنى ومحمد بن بشار اتفقا في الاسم، وفي أنهما بصريان، وفي سنة الولادة، وسنة الوفاة، وكل منهما شيخ لأصحاب الكتب الستة.
(5) ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة تابعيان، وفي الإسناد الثالث الأعمش وهو من صغار التابعين، ففي الإسناد الثالث ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: ابن أبي ليلى، والحكم، والأعمش.
(6) الحكم بن عتيبة وصف بالتدليس، وقد صرّح بالسماع في روايته هذا الحديث عن ابن أبي ليلى.
(7) شعبة بن الحجاج وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وصفه بذلك سفيان الثوري.
(8) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر): أن من المهم في علم المصطلح معرفة من اختلف في كنيته، وفي الإسناد كعب بن عجرة رضي الله عنه كنيته أبو محمد، وقيل أبو عبد الله وقيل أبو إسحاق كما في (تهذيب التهذيب).
(9) ذكر الحافظ ابن حجر في (نخبة الفكر) أيضاً: أن من المهم معرفة من تعددت كناه، وفي الإسناد الحكم بن عتيبة كنيته أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو عمر، كما في (تهذيب التهذيب).
(10) كعب بن عجرة رضي الله عنه له في صحيح مسلم أربعة أحاديث، وافقه البخاري على إخراج اثنين منها، (أحدهما) هذا الحديث في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، و(الثاني) في نزول آية الفدية فيه. أما الحديثان اللذان انفرد بهما عن البخاري فأحدهما حديث: ((معقبات لا يخيب قائلهن)) أخرجه في (كتاب المساجد)، و(مواضع الصلاة)، والثاني حديثه في خطبة الجمعة قائماً، أخرجه في (كتاب الجمعة)، فليس له في صحيح مسلم سوى هذه الأحاديث الأربعة، وليس له في صحيح البخاري سوى هذين الحديثين.
(11) محمد بن بكار بن الريان يوافقه في الاسم واسم الأب محمد بن بكار بن الزبير من شيوخ مسلم أيضاً، وذلك من أمثلة (المتفق والمفترق)، وهو أن تتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم وتختلف أشخاصهم، وفائدة معرفة ذلك خشية أن يظن الشخصان شخصاً واحداً.
(12) ابن أبي ليلى المشهور عند المحدثين هو عبد الرحمن الراوي عن كعب بن عجرة، وابن أبي ليلى المشهور عند الفقهاء هو محمد بن عبد الرحمن ينسب إلى جده أبي ليلى.
(13) إسماعيل بن زكريا ليس له في صحيح البخاري سوى أربعة أحاديث كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.
(14) مسعر هو الرجل الوحيد الذي يسمى بهذا الاسم في رجال الصحيحين.
(15) في الإسناد راويان يضرب بهما المثل في الحفظ وهما: مسعر بن كدام، وشعبة بن الحجاج.
المبحث الرابع: شرح الحديث:
(1) قوله (اللهم): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): لا خلاف أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اغفر لي وارحمني. واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم، فقال سيبويه: زيدت عوضاً من حرف النداء، ولهذا لا يجوز عنده الجمع بينهما في اختيار الكلام، فلا يقال: يا اللهم إلاّ فيما ندر كقول الشاعر :-
إني إذا حدث ما ألمّا ** أقول يا اللهم يا اللهم
كان في محله سمي بدلاً كالألف في: قام وباع، فإنها بدل من الواو والياء، ولا يجوز عنده أن يوصف هذا الاسم أيضاً، فلا يقال: اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه، والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد، وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها، وهذا من خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوباً غير مسبوقة بحرف إطباق. هذا ملخص ما ذكره الخليل وسيبويه، وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير: يا الله أمنا بخير، أي اقصدنا، ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول، فبقي في التقدير: يا الله أم، ثم حذفت الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم. وهذا قول الفراء.
وقال: وردَّ هذا البصريون بوجوه، فذكرها وعدتها عشرة. ثم قال: وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في (زرقم) لشديد الزرقة و(ابنم) في الابن، وهذا القول صحيح ممكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحاً لابد من بيانه: وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أساطين العربية. ثم أفاض في إيضاح ذلك وقال: وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء. وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قول (اللهم) فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد دعا الله بجميع أسمائه.
(2) قوله (اللهم صل على محمد): قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): وأصل هذه اللفظة ـ يعني الصلاة ـ في اللغة يرجع إلى معنيين: أحدهما الدعاء والتبريك. والثاني: العبادة. وقال: والدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة. والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قيل: أطيعوني أثبكم، وقيل: سلوني أعطكم، وفسر بهما قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) . وقال: وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة، أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، وأما الخاصة فصلاته على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال، فذكر قول من قال: إنها رحمته. وقول من قال: إنها مغفرته. وضعفهما من وجوه عديدة، واختار أن الصلاة ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه. وقال: ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية: صلاة الله على رسوله، ثناؤه عليه عند الملائكة. وقال في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه، بعد أن رد أن يكون المعنى الرحمة والاستغفار: بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه، وإظهار لفضله وشرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين: أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله، والإرادة والمحبة لذلك من الله، فقد تضمنت الخبر والطلب. والوجه الثاني: أن ذلك سمي صلاة منا، لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به. انتهى.
وقال الحافظ في (الفتح): وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية: أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه، طلب ذلك له من الله تعالى. والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة.
(3) قوله (وعلى آل محمد): آل النبي صلى الله عليه وسلم ، اختلف فيهم على أربعة أقوال، ذكرها ابن القيم في (جلاء الأفهام). الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. قال ابن القيم: هو منصوص الشافعي ـ رحمه الله ـ وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي.
الثاني: آله أزواجه وذريته خاصة، حكاه ابن عبد البر في التمهيد عن قوم.
الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم ، أتباعه إلى يوم القيامة. قال ابن القيم: حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. ثم قال: وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره بعض أصحاب الشافعي، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجحه محيي الدين النووي في شرح مسلم، واختاره الأزهري.
الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم : هم الأتقياء من أمته. قال ابن القيم: حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. ثم ذكر ابن القيم أدلة كل من هذه الأقوال الأربعة وقال بعد ذلك: والصحيح هو القول الأول ويليه القول الثاني، وأما الثالث والرابع فضعيفان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: ((إن الصدقة لا تحل لآل محمد)). وقوله: ((إنما يأكل آل محمد من هذا المال)). وقوله: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً))، وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً. فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوز العدول عن ذلك، وأما تنصيصه على الأزواج والذرية فلا يدل على اختصاص الآل بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم))، فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منهم بل هم أحق من دخل فيهم، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام وعكسه تنبيهاً على شرفه وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه.
(4) وفي هذه الصلاة سؤال مشهور، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم فكيف طلب له من الصلاة ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ فكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد ذكر ابن القيم في (جلاء الأفهام) أقوالاً عديدة في ذلك ضعفها وقال في آخرها: ((وقالت طائفة أخرى: آل إبراهيم منهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيحصل له بذلك من المزية ما لم يحصل لغيره، وتقرير ذلك أن يجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم ولآله وفيهم الأنبياء، جملة مقسومة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى قسم النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم ، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أعظم وأفضل من الحاصل لإبراهيم، وهذا أحسن من كل ما تقدمه، وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم. كما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (محمد من آل إبراهيم) ، وهذا نص إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آل، فدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله أن نصلي عليه وعلى آله خصوصاً بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم .
وتقرير ذلك أن يكون قد صلى عليه خصوصاً، أو طلب له من الصلاة ما لآل إبراهيم وهو داخل معهم، ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسوله صلى الله عليه وسلم معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه وجريه على أصله وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله أوفر نصيب منه صار له المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله وفيهم النبيون ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
(5) ورد في أحاديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله في أغلبها، وورد الجمع بين ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله، كما ورد إفراد إبراهيم دون ذكر الآل، وورد ذكر الآل دون إبراهيم، وقد قال ابن القيم في (جلاء الأفهام): ((إنه لم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم)). وهو وَهْم، فقد جاء الجمع بينهما في (صحيح البخاري) وغيره، وقد نبه على هذا الوهم الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، وفي حالة الجمع بينهما حصل التنصيص في الصلاة على كل منهما، وفي حالة ذكر إبراهيم فقط، فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع له فيها، وفي حالة ذكر آل إبراهيم فقط، فلأنه داخل في آله. نبه على ذلك ابن القيم في حالتي إفراد كل من إبراهيم وآله في المشبه به وقال: ((بقي أن يقال: فلم جاء ذكر محمد وآل محمد بالاقتران دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم وآله في عامتها؟.
وجواب ذلك: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم فإنما جاءت في مقام الخبر وذكر الواقع لأن قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) جملة طلبية، وقوله: (كما صليت على إبراهيم) جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها فإنها دعاء. والله يحب الملحين في الدعاء.
وقال: وأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضى، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يكن في زيادة اللفظ فيه كبير فائدة لاسيما المقام مقام إيضاح وتفهيم للمخاطب ليحصل معه البسط والإطناب. فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأحسن، فلهذا جاء فيه بلفظ إبراهيم تارة وبلفظ آله أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر من الوجه الذي قدمناه، فكان المراد باللفظين واحداً مع الإيجاز والاختصار، وأما في الطلب فلو قيل: صل على محمد: لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آله، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبراً عن أمر قد وقع واستقر، ولو قيل: صل على آل محمد، لكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصلى عليه في العموم، فقيل: على محمد وعلى آل محمد، فإنه يحصل له بذلك الصلاة عليه بخصوصه والصلاة عليه بدخوله في آله)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
(6) قوله (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم). قال ابن القيم: ((وحقيقتها الثبوت واللزوم والاستقرار، فمنه برك البعير إذا استقر على الأرض، ومنه المبرك لموضع البروك)). وقال: ((والبركة النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بذلك، ويقال باركه الله وبارك فيه وبارك عليه وبارك له)). وقال في معنى البركة في هذا الحديث: ((فهذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم وإدامته وثبوته له ومضاعفته له وزيادته)).
(7) ختم الدعاء في هذه الصلاة باسمي الله (الحميد والمجيد): والحميد فعيل من الحمد، وهو بمعنى محمود وهو أبلغ من المحمود. والحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محموداً وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه. والمحمود من تعلق به حمد الحامدين، وهكذا المجيد والممجد والكبير والمكبر والعظيم والمعظم، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له، وكذا من أثنيت عليه لغرض ما ولم تحبه لم تكن حامداً له حتى تكون مثنياً عليه محباً له. والمجيد من المجد، وهو مستلزم للعظمة والجلال كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه ذو الجلال والإكرام، ولهذا يقرن الله بين هذين النوعين في القرآن كثيراً، ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هو نوع حمد له وتمجيد هذا حقيقتها فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له وهما اسماه الحميد والمجيد، وهذا من ختم الدعاء بما يناسب المطلوب من أسماء الله تعالى كما هو كثير في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً بصلاة الله عليه، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد، وأيضاً فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمداً ومجداً، وكان ذلك حاصلاً له ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص فالرب أحق به، وأيضاً فإنه لما طلب للرسول صلى الله عليه وسلم حمد ومجد بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء على مرسله بالحمد والمجد ختم باسمي الله الحميد المجيد ليكون هذا الدعاء متضمناً لطلب الحمد والمجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى. انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم رحمه الله.
(8) قوله (قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟): يشير إلى ما أمروا به في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً )، والسلام الذي عرفوه هو ما جاء في التشهد من قوله: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)).
(9) قول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: ألا أهدي لك هدية: يدل على أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة سنته صلى الله عليه وسلم ، وتطبيقها، أنفس الأشياء عندهم، وأحبها إلى نفوسهم، ولهذا قال كعب ما قال منبهاً إلى أهمية ما سيلقيه على ابن أبي ليلى ليستعد لفهمه، ويهيئ نفسه لتلقيه والإحاطة به، ولما كان السلف معنيين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، حريصين عليها، وهي أنفس هداياهم، لما قام في قلوبهم من محبتها والحرص على تطبيقها كانوا سادة الأمم ومحط أنظار العالم، وكان النصر على الأعداء حليفهم، وكانت الشوكة والغلبة للإسلام وأهله، كما قال الله تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وعلى العكس من ذلك ما نشاهده اليوم من واقع المسلمين المؤلم، من التخاذل والتفكك، والزهد في تعاليم الشريعة، والبعد عنها، إلاّ من رحم الله وقليل ما هم. لما كانوا كذلك، لم يحسب أعداؤهم لهم أي حساب، ولم يقيموا لهم أدنى وزن، وكانوا هائبين بعد أن كان أسلافهم مهيبين، وغزوا في عقر دارهم من عدوهم، وممن تربى على أيديه من أبنائهم. وإذا تأمل العاقل ما تضمنه هذا الحديث الشريف من بيان قيمة السنة النبوية في نفوس السلف الصالح، وعظيم منـزلتها في نفوسهم، وأنها أنفس هداياهم، ثم نظر إلى حالة الكثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، وما ابتلوا به من الزهد في الشريعة، والتحاكم إلى غيرها، أقول إذا تأمل العاقل أحوال أولئك، وأحوال هؤلاء، عرف السر الذي من أجله كان أولئك ينتصرون على أعدائهم مع قلة عددهم وعُددهم، وكان هؤلاء ينهزمون وهم كثيرون أمام الأعداء، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلاّ إذا رجعوا إلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، ولفظوا القوانين الوضعية الوضيعة، وغيرها من البضائع الرديئة المستوردة مما وراء البحار، ونظّفوا نفوسهم وأوطانهم منها.
(10) هذا الحديث أورده مسلم في (كتاب الصلاة) من صحيحه، وقد قال النووي في شرحه: قال القاضي: ويحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويحتمل أن يكون في الصلاة، قال: وهو الأظهر. قلت: وهو ظاهر اختيار مسلم، ولهذا ذكر الحديث في هذا الموضع. انتهى.
وقال أيضاً: اعلم أن العلماء اختلفوا في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد الأخير في الصلاة، فذهب أبو حنيفة ومالك ـ رحمهما الله تعالى ـ والجماهير إلى أنها سنة، لو تركت صحت الصلاة. وذهب الشافعي وأحمد ـ رحمهما الله ـ إلى أنها واجبة، لو تركت لم تصح الصلاة. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وهو قول الشعبي. وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر جملة من أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد))، وذكره. ورواه الشافعي ـ رحمه الله ـ في مسنده عن أبي هريرة بمثله، ومن هاهنا ذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصح صلاته. ثم ذكر عن بعض المتأخرين أن الشافعي تفرد في ذلك، وحكى الإجماع على خلافه، وأنكر ذلك عليه، ثم قال: فإنا قد روينا وجوب ذلك الأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً، وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال إسحاق بن راهويه، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي، رحمهم الله.
وكتبه :-
عمر بن محمد عمر عبد الرحمن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق