صيغة هذا الزواج ونظامه :
تقوم صيغة هذا الزواج على صيغة تمليك المرأة نفسها للرجل من دون شهود أو إثبات، بدلاً من صيغة وطريقة التزويج المعروفة والشائعة.
ومن ثم فإن الزوجة تقول: "ملكتك نفسي بدلاً من زوجتك نفسي" وهو زواج بلا مستندات أو وثائق أو حقوق تحتفظ فيه بالعصمة، أي يمكنها تطليق نفسها عندما تريد.
أسباب الرق :
1 – الدين : فإذا كان الشخص مدينا لغيره بدين وعجز عن السداد فإن الدائن يمتلك المدين ، فإن كان الدين أكبر من قيمة المدين فإنه يمتلك بالإضافة إلى ذلك زوجته وأولاده حتى يوفي دينه . وهذا النظام كان موجودا لدى شرائع كثيرة قبل الإسلام.
2 – الخطف : وهو قيام قطاع الطرق – كما كان يحدث قديما – بخطف رجل أو طفل أو امرأة وبيعه رقيقا في السوق النخاسة . والإسلام يحرم ذلك ويجعله من قبيل الإفساد في الأرض ، ومن يفعل ذلك يعد محاربا لله ورسوله قال تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
3 – الجوع : ويحدث هذا النظام عندما يكون الإنسان فقيرا ولا يقدر على إطعام أولاده وذويه فإنه يقوم ببيعهم ، وهذا محرم أيضا في الإسلام .
4 – أسرى الحروب :عندما تقوم الحرب بين دولة إسلامية ، ودولة غير إسلامية ، ويحدث أسر لنسائهم ، فهؤلاء الأسرى الحاكم مخير فيهم بين أن يقتلهم ، أو يمن عليهم بإطلاق سراحهم ، أو الفدية بالمال أو بغيرهن من نساء المسلمين أو رجالهم ، أو يجعلهم سبايا أو عبيدا للمسلمين . والمرجع في ذلك هو اختيار رئيس الدولة وفقا لمصالح المسلمين العليا .
وحيث إن دول العالم الإسلامي كلها وقعت على اتفاقيات تحريم الرق وأصبح ذلك ملزما لكل دول العالم فيبدو لي أن نظام أسر النساء في الإسلام لا يتيح لهن الرق طالما بقيت هذه الاتفاقات سارية المفعول ، ويعمل بها ، ومن ثم فيخير الحاكم فيهن بعد الأسر بين القتل ، أو المن ، أو الفدية ، ولا يحق له وفقا للمعاهدات والاتفاقات الدولة استخدامهن كرقيق يبعن ويشترين في الأسواق .
هل يجوز لأحد أن يملك نفسه للغير ؟
النفس الإنسانية ملك لله تعالى لا يجوز إهانتها أو امتهانها قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) كما أن الاعتداء على النفس الإنسانية بمثابة الاعتداء على الناس جميعا قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) وبناء على ذلك فلا يجوز لأي فرد رجلا أمر امرأة أن يملك نفسه لغيره ، لأنها ملك لله وليست ملكا للعبد ، وتمليك الإنسان شيئا مبني على كونه مالكا له ، وحيث إن الإنسان لا يملك نفسك ، فلا يجوز أن يملكها غيره .
ما حكم زواج ملك اليمين إذن ؟
قبل الولوج في بيان حكم هذا الزواج لا بد من بيان مفهوم الزواج وحكمته وأركانه في الإسلام حتى يمكننا الحكم على هذا الزواج بشكل صحيح :
أما عن تعريفه فعرفه الشيخ أبي زهرة بقوله (هو عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة بما يحقق ما يقتضيه الطبع الإنساني وتعاونهما مدى الحياة ويحد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات ) والزواج الحال محل الكلام لم يحد لكليهما حقوقا ولا واجبات سوى قضاء الوطر الجنسي لا غير .
وأما عن أركانه : فهي : الزوج ، والزوجة ، والصيغة ، والولي ، والمهر ، والشهود ، والإشهار ، والجمهور يرون أن ركنه الإيجاب والقبول ، وما عداه شروط لا يصح العقد بدونها ، والجمهور يرونها أركانها يبطل العقد باختلالها .
وزواج ملك اليمين زواج لم تكتمل أركانه ، فلم يوجد سوى الزوج والزوجة ، والصيغة المستخدمة ليست من صيغ الزواج ، ومن ثم فلا يعول عليها ، وباقي الأركان من الشهود ، والولي ، غير متوفرة ، ومن ثم فهو باطل ، سواء عند الحنفية أو الجمهور ، لاختلال معظم الأركان عند الجمهور ، ولاختلال ركن الصيغة عند الحنفية ، ولعدم توافر شروط الصحة وغيرها عندهم .
حكم زواج ملك اليمين على النحو السابق :
بعد بيان هذا التصور السابق عن زواج ملك اليمين وصورته والهدف منه أقول :
إن هذا الزواج محرم بل هو الزنا الحرام بعينه وذلك لأنه يؤدي إلى ما يأتي :
1 – إشاعة الفاحشة في المجتمع من خلال السفور وترك الاحتشام قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
2 ـ يؤدي هذا الزواج إلى امتهان المرأة والنيل من كرامتها ، والحط من شأنها وكل ما كان كذلك فسبيله التحريم لا محالة , قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ )
3 – هذا الأمر يجعل المرأة ملكا للزوج بحيث تكون بمثابة سلعة تباع وتشترى في الأسواق مثل سائر الأغراض الأخرى وهذا حط منها ، ومن كرامتها أيما انحطاط . وكل ما كان كذلك فسبيله التحريم ، فقد ، جاء في صحيح البخاري بَاب إِثْمِ من بَاعَ حُرًّا ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي قال قال الله ثَلَاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يوم الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى منه ولم يُعْطِ أَجْرَهُ "
4 – إن المعاهدات والمواثيق الدولية منذ حقبة كبيرة من الزمان نصت على تحريم الرق الذي كان موجودا من قديم الزمان ، والدول الإسلامية جمعاء قد وقعت والتزمت بهذه الاتفاقات ، ومن ثم فهي واجبة التنفيذ طالما لم ننبذها ، قال تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )
إهانة للإسلام وأهله
5 – إن المناداة بهذا الزواج على النحو الذي سبق بيانه من شأنه أن يهين الإسلام وأهله ، ومن شأنه يؤدي إلى الطعن في الإسلام ، وكل ما كان ذلك فسبيله المنع والتجريم .
6 – إن تصوير المرأة على أنها سلعة تباع وتشترى ، وهي متاع في البيت لا غير ، لا قيمة لها سوى امتاع الرجل فقط ، لهو أسوأ أنواع الامتهان بالمرأة ، والإسلام كرمها وجعلها شقيقة الرجل قال عليه الصلاة والسلام ( النساء شقائق الرجال ) وقال تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) وقال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
7 ـ إن هذا الزواج من شأنه أن يمتهن قداسة وحرمة الزواج في الإسلام ، وقد سماه القرآن الكريم ميثاقا غليظا قال تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) فكيف نجعل الميثاق الغليظ بهذه المهانة .
8 – إن هذا الزواج مظنة لضياع حقوق المرأة من مهر ، ونفقة ، ومؤخر صداق ، ونفقة العدة والمتعة ، والقاعدة الشرعية :" أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام "
زواج يسبب مشكلات فى المجتمع
9 – إن هذا الزواج من شأنه يوجد الكثير من المشكلات في المجتمع ومن أخطر هذه المشكلات ، مشكلة ضياع نسب الأولاد ، فكما تقدم هو زواج بلا أوراق ، ولا مستندات ، ويستطيع الرجل بعد أن يقضي وطره من المرأة ، أن يتركها ، وأن يتنصل منها ، ويضيع نسب هذا الابن الذي يكون ثمرة هذه العلاقة الآثمة . ولو ذهبت إلى القضاء لن تسمع دعاواها لأنه لا تسمع دعاوى الزوجية عند الإنكار إلا بوثيقة رسمية .
10 – إن هذا الزواج من شأنه أن يسيء من سمعة المرأة ، عندما تتزوج بهذه الطريقة الممتهنة ويتركها زوجها ، وهل حامل منه ، ولا تستطيع إلحاق نسب الولد به ، فيظن الناس بها سواء أنه أتت به من علاقة محرمة ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم )
11 ـ إن زواج الإماء على فرض وجود نظام الرق مقيد بشرطين :
الأول : عدم وجود حرائر أو عدم القدرة على زواجهن قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ )
الشرط الثاني : خوف الوقوع في الحرام قال تعالى (ذلك لمن خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
12 – إن من ينادي بهذا الزواج يخرج على قواعد النظام العام والآداب في المجتمع ومثل هذه القواعد لا يجوز مخالفتها ، ويستحق مخالفها عقوبة من الحاكم أو ولي الأمر تزجره عن معاودة هذا السلوك مرة أخرى .
زواج باطل
13 – من يتزوج بهذه الطريقة فزواجه باطل ، ومعاشرته لهذه المرأة زنا مقنن تحت شعار زواج ملك اليمين وقد قال بعض العلماء إن فاعله يستحق الرجم إن كان محصنا ، والجلد إن كان غير محصن ، ويرى البعض الآخر أن من تزوج بهذه الطريقة يستحق عقوبة تعزيرية لا غير لوجود الشبهة التي تدرأ الحد ، مع اتفاق الجميع على كونه زنا محرما .
لكل ما تقدم يتضح للعيان حرمة هذا الزواج لما يكتنفه من عوار ، بل ودمار ، على الإسلام وأهله ، ولما فيه من انتهاك لحرمة آدمية وإنسانية المرأة ، ولما فيه من ردة إلى الوراء ، ووسم الإسلام بالتخلف والرجعية .
نظام الرق
وأختم أخيرا بكلمة للعلامة الطرطوسي عن موقف الإسلام من الرق حيث يقول :"ونظام الرق معروف لدى جميع الشعوب ، ومنهم العرب . وكان مصدره التقليدي الأسر في الحروب ، والقرصنة والاختطاف من البلاد النائية والبدائية ؛ لا سيما في فترات المجاعة والكوارث الطبيعية . وعندما بعث الرسول صلي الله عليه وسلم وجد نظام الرق أحد أهم دعائم الاقتصاد في المجتمع الجاهلي ، فوضع الإسلام لتصفيته تشريعات متدرجة ، كفيلة بتصفيته . أغلق أولاً باب الرق مما سوى الحروب التي كانت خاضعة لقانون المعاملة بالمثل ، وحرم الاسترقاق بالاختطاف والقرصنة ومختلف أساليب التعدي ، ثم كفل للأسرى - الرقيق الحربي - مجالاً واسعاً إنسانياً ، يتمتعون فيه بحريتهم الدينية والفكرية والعلمية والإنتاجية ، وحقوقهم البشرية زواجاً وطلاقاً وإنجاباً وكسباً ، وهو ما لم توفره لحد الآن ، أمة من الأمم للأسرى على مدار التاريخ ؛ كما فتح لتحريرهم من الرق أبواباً أخرى لم تفتحها لهم أمة أبداً ، عتقاً بمختلف الكفارات ، وعتقاً إذا اعتدي عليهم بالضرب أو اللطم ، وعتقاً بالتطوع والفداء ، والمن والمكاتبة . وسار التشريع الإسلامي في هذا المجال إلى أبعد الحدود ، فجعل هزل العتق جدّاً ، حفاظاً على كرامة الأسرى وحماية لهم من الهزل و السخرية . ولو استمرت أحوال المسلمين طبقاً لما شرعه الإسلام في هذا المجال ، لصفي الرق في وقت مبكر من تاريخ الإنسانية".
د.عبد الحليم منصور
أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق