كان الحجاج بن يوسف الثقفي من الولاة الظالمين الغاشمين، وقد عمت سيئاته الأمة بأسرها.
كان خالد بن عبد الملك القسري واليا على مكة، وقد خُبِّرَ بوجود سعيد بن جبير في ولايته، فأراد أن يتخلص منه، فألقى القبض عليه واعتقله، وأرسل إلى الحجاج الظالم ودخل الإمام على الظالم.
قال الحجاج: ما اسمك؟
قال سعيد: سعيد بن جبير.
الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
قال سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
الحجاج: شقيت أمك وشقيت أنت.
قال سعيد: الغيب يعلمه الله.
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
الحجاج: فما قولك في محمد؟
قال سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى.
الحجاج: فما قولك في عليّ أهو في الجنة أم في النار؟
سعيد: لو دخلت وعرفت من فيها، عرفت أهلها.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟
سعيد: أرضاهم لخالقي.
الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟
سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
الحجاج: أحب أن تصدقني.
سعيد: إن لم أحبك لن أكذبك.
الحجاج: فما بالك لم تضحك؟
سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار!!!
الحجاج: فما بالنا نضحك؟
سعيد: لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج بالذهب والفضة واللؤلؤ والزبرجد فجمعه بين يديه.
فقال سعيد: إن كنت جمعته لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء من الدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد.
فقال الحجاج: ما يبكيك أهو اللعب؟
قال سعيد: هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق!! وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة!!!
فقال الحجاج: ويلك يا سعيد.
فقال سعيد: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة.
قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟
قال سعيد: اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟
قال سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك فأخبر الحجاج بذلك، فردوه إليه.
قال الحجاج: ما أضحكك؟
قال سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط، وقال اقتلوه.
قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة.
قال سعيد: فأينما تولوا فَثَمَّ وجه الله.
قال الحجاج: كبوه على وجه.
قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.
قال الحجاج: اذبحوه.
قال سعيد والسكين على رقبته وقد استسلم لقضاء الله: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، اللهم لا تسلطه على أحد يقتله من بعدي.
وعاش الحجاج بعده أيام قلائل، قيل ثلاثة وقيل خمسة، وقيل خمسة عشر، وقيل أكثر من ذلك، فسلط الله على الحجاج البرودة حتى كان والنار حوله يضع يده في الكانون فيحترق الجلد ولا يحس بالحرارة، ووقعت الأكلة في داخله والدود، فبعث إلى الحسن البصري فقال: "أما قلت لك لا تتعرض للعلماء؟ قتلت سعيداً"!!!
ويقال: إنه كان في مرضه كلما نام رأى سعيداً آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً فيقول: مالي وسعيد بن جبير، فسبحان الله الحليم الكريم يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 144)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم: 42).
قتل - رحمه الله – (95هـ)، - رحمه الله تعالى - ورضي عنه.
أعرض عن الهجران والتمادي*** وارحل لمولى منعم جواد
ما العيش إلا في جواره سارة*** قد شربوا من خالص الوداد
وصدق القائل:
خذوا كل دنياكم واتركوا*** فؤادي حراً وحيداً غريباً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق