قال أبو غالب بن معاوية: "ضُرب أحمد بن حنبل بالسَّياط في الله فقام مقام الصِّدِّيقين في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين".
أُخذ أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن أيام المأمون، ليحمل إلى المأمون ببلاد الروم، وأُخذ معه أيضاً محمد بن نوح مقيدين، ومات المأمون قبل أن يلقاه أحمد، فردَّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في أقيادهما، فمات محمد بن نوح في الطريق، ورُد أحمد إلى بغداد مقيداً.
انظر إلى فعل هؤلاء العلماء، ويا لهم من علماء، دخل الإمام أحمد حفاظ أهل الحديث بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذُاكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال أحمد: "كيف تصنعون بحديث خباب ((إنه كان قبلكم كان ينشر أحدكم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه))"، فيئسوا منه.
قال الإمام أحمد: "كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد"، ووضعوا في رجله أربعه قيود، ولما مات المأمون ردَّ أحمد إلى بغداد، فسُجن إلى أن امتحنه المعتصم.
قال أحمد: "لست أُبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السَّوط".
فبإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: أنه كان يقول: "كنت كثيراً أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم، فقلت: من أبو الهيثم؟
قال: أبو الهيثم الحداد، لما مُدت يدي إلى العقاب، وأُخرجت للسياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا.
قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين".
قال أبو بكر المروزي: "لَّما سجن أحمد بن حنبل جاء السجان فقال له: يا أبا عبد الله، الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟
قال الإمام أحمد: نعم.
قال السَّجَّان: فأنا من أعوان الظلمة؟
قال الإمام أحمد: فأعوان الظلمة من: يأخذ شعرك، ويغسل ثوبك، ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن الظلمة أنفسهم".
ولما أمر المعتصم بحمل أحمد إليه، وكان قد سجنوه في رمضان في دار إسحاق بن إبراهيم، دخل عليه إسحاق فقال: "يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يُلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس"، وجيء إلى أحمد بدابة، فحُمل عليها وعليه الأقياد، وكاد غير مرة أن يخرّ على وجهه لثقل القيود، فجيء به إلى دار المعتصم، وأدخلوه في حجرة، وأقفل الباب عليه، وذلك في جوف الليل وليس في البيت سراج، فلما كان الغدُ أخرجوه إلى الخليفة ليناظره أحمد بن أبي دواد والمعتصم يقول: "والله لئن أجابني لأُطلقن عنه بيدي، ولأركبَّن إليه بجندي، ولأطأن عقبه".
ثم قال: "يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، إني لأشفق عليك كشفقتي على هارون ابني، ما تقول"؟
فأقول: "أعطوني شيئاً من كتاب الله - عز وجل - أو سنة رسوله".
ومرة أخرى يقول المعتصم لأحمد: "ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي"؟
قال أحمد: "سمعت باسمه. قال: كان مؤذني وكان في ذلك الموضع جالساً -وأشار إلى ناحية من الدار- فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوُطئ وسُحب".
وبعد ثلاث أيام من المناظرة والإمام أحمد يُفحم المبتدعة.
قال المعتصم: "العقابين والسياط"، فجئ بهم، قال أحمد: "لما جيء بالسياط، نظر إليهم المعتصم فقال: ائتوني بغيرها، فأتي بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إليّ الرجل فيضربني سوطين، فيقول له المعتصم: شُدَّ قطع الله يدك، ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربني سوطين وهو في ذلك يقول لهم: شُدَّوا قطع الله أيديكم، فلما ضُربت تسعة عشر سوطاً قام إليّ -يعني المعتصم- فقال: يا أحمد علام تقتل نفسك؟؟ إني عليك والله شفيق.
فقال الإمام: فجعل عُجيف ينخسني بقائم السيف، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك، الخليفة على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: ويحك يا أحمد، من صنع من أصحابك في هذا الأمر.
ما تصنع؟ قال: وجعل المعتصم يقول: ويحك يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أُطلق عنك بيدي.
قال: فقلتُ يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به. قال: فرجع وجلس، فقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو في خلال ذلك يقول: شُدَّ قطع الله يدك.
قال أحمد: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إننا كببناك على وجهك وطرحنا على جنبك بارية ودسناك.
قال أحمد: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ.
قال الإمام: لست أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم في ثوبك؟! فقلت -أي أحمد-: وقد صلى عمر وجرحه يثغب دماً".
مكث الإمام أحمد منذ أن أخذ وحمل إلى أن ضرب وخليّ عنه ثمانية وعشرين شهراً.
قال بعض الجلادين: "لقد بطل أحمد الشُّطّار والله، لقد ضربته ضرباً لو أُبرك لي بعير فضربته ذلك الضرب لنقبت عن جوفه".
وصدق القائل:
ضربوا ابن حنبل بالسياط بظلمهم *** بغياً فُثِّبت بثبات الأنور
قال الموفق حين مدُد بينهم *** مد الأديم مع الصعيد القرر
إني أموت ولا أبوء بضجرةٍ *** تصلي بوائقها محل المفتري
وقال آخر:
هانت عليه نفسه في دينه *** ففدى الإمام الدين بالجُثمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق