الإنسان وكرامته وحرمته وحريته والحفاظ على حقوقه وتحقيق أسباب العيش السعيد له أهم ما يدور حوله المشروع الإسلامي، ولذلك فهو يهتم أساسا بالحفاظ على ما يسمى بالكليات الخمس وهي: النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال، ويجعل الحفاظ على النفس أول الأغراض التشريعية لكثير من أحكامه، ويحرم الاعتداء على هذه النفس بالقتل أو الإصابة، سواء كان المعتدي شخصاً آخر أو كان هو الشخصَ نفسه، حتى إنه حرم الانتحار والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، قال تعالى ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ وقال تعالى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾؛ ويجعل القصاص مرصادا لمن يعتدي على الآخرين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ويعد ذلك كله عرفاناً بقيمة الإنسان واحتراماً لحقه في الحياة.
وقد تجاوز الإسلام كافة التشريعات البشرية حين لم يقف عند حد وضع العقوبات المادية الدنيوية للاعتداء على النفس الإنسانية بغير حق، بل توعد المعتدين على النفوس، وفي المقدمة من ذلك النفوس المؤمنة بعذاب عظيم في الآخرة، فإن أفلت من عقاب الدنيا لأي سبب فلن يفلت من عقاب الله ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ وتتابعت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في النهي عن الاعتداء على النفس المؤمنة، بأساليب مختلفة تملأ النفس رهبةً من الإقدام على مثل هذا الجرم العظيم، حتى ليعتبر أن زوال الدنيا وفناءَها وخراب هذا الكون بما فيه أهونَ عند الله من قتل نفسٍ مؤمنةٍ بغير حق؛ لأن الكون كله خُلق لأجل الإنسان وسُخِّر له، وفي هذا غاية التكريم للإنسان وقمة الاحترام للنفس البشرية وخصوصا النفس المؤمنة.
وفضلا عن ذلك فإن المشروع الإسلامي أحرص شيء على كرامة الإنسان، حتى إنه يرفض أن تتنصت الدولة على مواطنيها، أو أن تسعى للتعرف إلى أسرارهم، ويرى المشروع الإسلامي أن هذا من الخصوصيات التي يجب حمايتها، ويرفض تماما أن تُنصَب لهم آلاتُ التصوير الخفية لتصورهم وهم يمارسون حياتهم، ولا يسلط الشُّرَطةَ أو غيرها لتتجسس على الناس المخالفين للنظام حتى تقبض عليهم متلبسين!
بل إن توجيهاتِ النبي صلى الله عليه وسلم هنا حاسمةٌ كلَّ الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم أوتتبع عوراتهم، سواء من قِبَل الأفراد، أومن قِبَل السلطات الحاكمة، فيقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان: «مَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أي الرصاص المغلي المُذاب من شدة الحرارة، ويرفض صلى الله عليه وسلم أن يبعث الحاكم عيونه بين رعيته، فيقول فيما أخرجه أحمد وأبو داود: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».
العيون إنما يبعثها القائد لتتجسس على عدوه، وتنقل له أخبار خصومه الذين يتربصون بالأمة، أما مواطنوه ورعيته الذين وُكِلَ إليه أمرُهُم، وأُمر أن يجتهد في الخير لهم، فلا يمكن أن يتنصت عليهم، ولا أن يتتبع مجالسهم، بل ولا أن يدخل عليهم بغير استئذان.
حتى من بلغه أنه ينافق وأنه يجتمع مع مجلس نفاق أو يجتمع لفعل شيء محرم، كان صلى الله عليه وسلم يرفض أن يبعث إليه ليتجسس عليه، فعند الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ حَرْمَلَةُ بن زَيْدٍ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، الإِيمَانُ هَهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، وَالنِّفَاقُ هَهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَلا يَذْكُرُ الله إِلا قَلِيلا، فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَسَكَتَ حَرْمَلَةُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِطَرَفِ لِسَانِ حَرْمَلَةَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّنِي، وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى الْخَيْرِ»، فَقَالَ حَرْمَلَةُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي إِخْوَانًا مُنَافِقِينَ كُنْتُ فِيهِمْ رَأْسًا أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا، مَنْ جَاءَنَا كَمَا جِئْتَنَا اسْتَغْفَرْنَا لَهُ كَمَا اسْتَغْفَرْنَا لَكَ، وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَنْبِهِ فَالله أَوْلَى بِهِ، وَلا تَخْرِقْ عَلَى أَحَدٍ سَتْرًا».
وهكذا فعل خلفاؤه رضي الله عنهم، فقد صحح الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنه حرس ليلة مع عمر رضي الله عنه بالمدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراجٌ في بيتٍ، فانطلقوا يؤمُّونه (أي يقصدونه) حتى إذا دنَوْا منه، إذا باب مُجَافٌ (أي مغلق) على قومٍ، لهم فيه أصواتٌ مرتفعةٌ ولَغَطٌ، فقال عمر رضي الله عنه -وأخذ بيد عبد الرحمن-: أتدري بيتُ مَنْ هذا؟ قال: لا، قال: هو ربيعةُ بنُ أميةَ بنِ خَلَف، وهم الآن شُرْبٌ (أي يشربون الخمر) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتيْنا ما نَهى اللهُ عنه، نهانا الله فقال:﴿ ولا تجسسوا﴾ فقد تجسسنا! فانصرف عمر عنهم وتركهم.
ويرفض المشروع الإسلامي محاسبة الناس على النوايا أو مؤاخذتهم بالظن لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله، فقد أخرج البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، الله يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ».
وأخرج ابو داود بسند صحيح عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه (وهو قاض) فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا. فَقَالَ عَبْدُ الله رضي الله عنه: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ».
ولا يقبل المشروع الإسلامي تلك الصورة القبيحة القميئة التي لا يكون همُّ الحاكم فيها إلاأن يتعرف إلى خصوصيات رعيته، ليُخوِّفهم ويُرهبهم، ليسمعوا ويطيعوا بلا وعي، فهذا خلاف الولاية الصحيحة التي أرادها الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فهل يعي المسؤولون عن أمر أمتنا والمقبلون على تولي المسؤولية فيها هذه القيم الرائعة التي يحملها المشروع الإسلامي، لتتضمن الدساتير والقوانين كل تلك الحقوق الشرعية للإنسان في ظل الإسلام الحنيف، فيأمن المواطنون على أرواحهم ودمائهم وأعراضهم وحرماتهم ويطمئن كل منهم على أن يصبح ويمسي آمنا في سربه معافى في بدنه ساعيا في معاشه متعاونا مع غيره حرا في وطنه كريما على أهله إيجابيا في حركته شديد الولاء والانتماء لوطنه مشاركا في نهضة أمته؟.
فضيلة الشيخ العلامة أ.د.عبد الرحمن البر
عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق