الأربعاء، 15 أغسطس 2012

ماذا بعد رمضان؟


الحمد لله القائل: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92].
والصلاة والسَّلام الأتمَّان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، القائل: ((أحبُّ الأعمال إلى الله ما دُووِم عليه، وإن قل)).

وبعد :- فها هو رمضان ارتحل، وانقضت لياليه الزاهية، ومضَتْ أيامه العامرة، وتولَّت أجواؤه العاطرة، ذلك الشهر الذي آوى ظمَأ العطشى، وشفَى جراحات المرْضَى، وأعاد الحياة إلى الأرواح، والصِّحةَ إلى الأبدان، وعادت به النُّفوس إلى باريها، وسجَدَت الجِباه لخالقها، نَشط الكثير في العبادات المتنوِّعة، فاهتمُّوا بأداء الفرائض، وتقرَّبوا إلى الله بالنَّوافل، قَرؤُوا كلام الله، وابتهلوا إليه بالدُّعاء، وتصدَّقوا على الفقراء والمساكين، واعتمر منهم من اعتمر، واعتكف منهم في بيوت الله مَن اعتكف، هيَّأ الله الأجواء في شهر رمضان؛ ليكون مدْرسَة متكامِلة يأخذ فيه المسْلِمون لبقية الشهور.

غير أنَّ بعضًا من المسلمين إذا انقضى رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه من التَّهاوُن، أو التقصير في العبادات، وما هكذا يكون حال المؤمنين.

إن من علامات القَبُول والتوفيق أن يُتْبِع المرءُ الحسَنةَ بالحسنة، فذلك هو الفائز المفْلِح الذي سلك طريق السائرين إلى ربِّهم، وإن من علامات الخسران والخذلان أنْ يُتْبِع المرء الحسنة بالسيِّئة، فذلك هو المغبون المفتون.

لقد كان دأب السَّابقين الأوَّلين تأسِّيًا بنبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلم - الاستمرار والمداومة على الطَّاعة بعد رمضان، ولم يكونوا مَوْسميِّين فقط، نعم، كانوا يستغلُّون المواسم فينشطون أكثر للعبادات، ويتعرَّضون لنفحات الله، قال القاسم بن محمد: "كانت عائشة - رضي الله عنها - إذا عَمِلت عملاً لزمته"؛ رواه مسلم.


سُئِلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كيف كان عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ فقالت: "كان عمَلُه ديمة، وأيُّكم يستطيع ما كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم"؛ رواه مسلم.

ومن هنا كَرِه العلماء الانقطاع عن العمل؛ أخذًا من حديث: ((لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم اللَّيل، فترَك قيام الليل)).

أيها الأخ الحبيب، لا تكن موسميًّا في عباداتك، بل كن من المداوِمين على الطاعات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّها الناس، اكْلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإنَّ الله لا يمَلُّ حتى تملُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دووِم عليه وإن قل))؛ متَّفق عليه.

ولئن كان شهر رمضان قد انتهى وولَّى بما فيه من بحار الفضائل، فإن فضائل الطاعة لا تَنقطع ولا تنتهي، ومَن كان يَعبد رمضان فإنَّ رمضان قد ولَّى، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.

وإنه من المؤسف أن تَرى مظاهر التَّكاسل والتراجع، والعودة إلى ما كان عليه الكثير قبل رمضان، وكأنَّ الدِّين والتديُّن قد حُصِر في شهر رمضان، نعم، في شهر رمضان ميزات على سائر الشهور، لكن الله - جلَّ وعلا - قد حثَّ ورغَّب في الطاعات في غير رمضان، فصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من صام رمضان وأتبعه بسِتٍّ من شوال، فكأنَّما صام الدَّهر)).

وكان - صلى الله عليه وسلَّم - يصوم الاثنين والخميس، فلما سُئِل عن ذلك قال: ((أمَّا الاثنين فذاك يوم وُلِدت فيه، وأما الخميس فتُرفع فيه الأعمال، وأحبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم)).

وكان يحث على صيام الأيام البيض (13، 14، 15) من كلِّ شهر قمري، وكان يقول عن صوم يوم عاشوراء: إنه يكفِّر ذنوب سنة مضَتْ، ويقول عن صيام يوم عرَفة: ((إنِّي أحتَسِب على الله أن يكفِّر به صيام سنة ماضية وسنة آتِيَة)).

وكان يقول عن العمل في العشر من ذي الحجة: ((ما من أيَّام العمل فيهن أفضل من هذه العشر))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء)).

وصحَّ عنه - عليه الصلاة والسلام -: أنه كان يحثُّ على ذِكْر الله - تعالى - ويرتِّب على ذلك العملِ من الأجر مثْلَ أجر قيام ليلة القدْر، فقال - عليه الصلاة والسلام - من قال: ((سبحان الله وبحمده مائة مرَّة، حُطَّت خطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر))؛ متَّفَق عليه.

وكان يحثُّ على الوضوء كوضوئه - صلى الله عليه وسلم - ويرتِّب على ذلك مثل أجْر ليلة القدر أيضًا، فقال - كما عند الشَّيخين -: ((من توضَّأ مثل وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفْسَه، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)).

ومَن وقع في التقصير بعد التَّمام، وارتكب الذُّنوب بعد الإقلاع عنها، فذلك الذي باعد نفْسَه عن الفوز بالطاعات.

أما أولئك الذين داوَموا على طاعة الله - عز وجل - فالعام كلُّه عندهم شبه رمضان، وإن فَتروا في بعض الأوقات، فالتقرُّب إلى الله عندهم لا ينقطع إلاَّ بالموت؛ ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

وليس العبرة في الأعمال بالكَمِّ، ولكن بالكيف؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 1 - 2] أحسَنَه؛ أيْ: أخْلَصه وأصْوَبه.

فأسأل الله - تعالى - أن يجعَلَنا وإيَّاكم ممن يداوم على الطاعات، ونعوذ بالله أن نكون كالتي نقَضَت غزْلَها من بعد قوَّة أنكاثًا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.


د. عقيل المقطري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق